الجمعة، 30 سبتمبر 2011


آفاق الدراسات الأدبية في الألفية الثالثة

سعيدة تاقي



مدخل :



ينطلق إيمانويل فريس Emmanuel Fraisse وبرنار موراليس Bernard Mouralis في كتابهما المشترك "قضايا أدبية عامة"[1]، من الجدل الذي عرفته الساحة الفرنسية حول دخول الدراسات الأدبية زمن الشك، وقد نقلت الصحافة الفرنسية أصداء ذلك الجدل، بتوقيع مئة وعشرين شخصية معروفة على عريضة تحمل عنوانا لها "إنهم يغتالون الأدب في شارع غرونبل"، نشرتها جريدة لوموند في الرابع من مارس سنة 2000، ليست أزمة الدراسات الأدبية، وفق منظور الكاتبين، فرنسية وليست جديدة بل إنها تواكب خطر تزايد الأمية والقلق من قوة وسائل الإعلام، وصعوبة تعريف القيم ونقلها إلى الأجيال الصاعدة، ويعكس كل ذلك سمات العالم الحديث الذي تنبأت له حنه أرندت  Hannah Arendt منذ الخمسينات بأزمتين متواشجين هما "أزمة تعليم" و"أزمة ثقافة".



وعلى الرغم من كون ذلك الجدل في فرنسا قد أكد أهمية الدراسات الأدبية بوصفها موجها للحس المدني والنقدي ولاكتساب حسن الاستدلال[2]؛ فإن المؤلفين فريس وموراليس يلحان على تغييب ذلك الجدل للتفكير في الأدب بوصفه أدبا. بيد أن ذلك لا يعني أن مؤلفهما يقدم نظرية أدبية للأدب، أو أنه ينبني على مفهوم ضمني للشأن الأدبي يرسخ دعائم علم مؤكد، بل على النقيض من ذلك تجاوز الكاتبان طرح سؤال "ما الأدب ؟"، لأن الأدب ليس من المسلمات المتفق حولها، وانصرفا إلى استجلاء أربع قضايا تخص الأدب، بل تشكل حسبهما الوجود الأساس للأدب.



 . I       تصورات حول الأدب:



يبحث فريس وموراليس  ـ عبر كتابهما ـ عن آفاق جديدة لنظرية الأدب، قوام تلك الآفاق اختلاف زوايا النظر وتعدد المرجعيات، وسندها الإصرار على طرح الأسئلة دون ادعاء القدرة على إيجاد حل لها. فالمؤلف   يدرس أربع  قضايا  توزعت على أربعة فصول هي: الاتصال الأدبي ـ الأثر الأدبي وحدوده ـ الأدب والمعرفة ـ القراءة، قراءة الآخر.



 كتب برنار موراليس الفصلين الأول والثالث، وكتب إيمانويل فريس الفصلين الثاني والرابع. ولعل غياب الخاتمة أو الفصل الختامي التوفيقي يوحي، منذ البداية، بنزوع الكتاب إلى اقتراح تصورات ومحاورة تمثلات ومواضعات حول الأدب، بدل تأسيس نظرية للأدب أو تقديم إجابات جاهزة مكتملة، غير أن هذا الحكم هو مجرد فرضية تخضعها قراءة الفصلين الأولين من الكتاب للروز والتحقق النقديين.

  الاتصال الأدبي:

 يتبع برنار موراليس الطريق الممتد من تصور الكاتب للنص إلى تملك القارئ لهذا النص، ويقتفي في ذلك ترسيمة ياكبسون لعوامل الاتصال اللغوي، مبينا الملامح الخاصة للاتصال الأدبي الخطي أو المكتوب.المرسل في الاتصال الأدبي هو المؤلف (فردا أو مجموعة أفراد)، له وجود تاريخي مثبت، لا ينفيه مطلقا اختيار المؤلف أحيانا تقديم نفسه للقراء باستخدام اسم مستعار. ورغم كون  المرسل إليه ـ في الاتصال الأدبي ـ شخصا افتراضيا، فإن الكاتب عبر انتقاءات الكتابة (مستوى اللغة الشائعة أو المتخصصة، النوع الأدبي، نمط الكتابة، نوعية الإنتاج والتوزيع والشكل المادي للكتاب ...)  يتوجه  إلى جمهور محدد، محاولا تلبية رغباته، وهكذا فإلى جانب المرسل إليه الفعلي الحقيقي قارئ الكتاب، هناك مرسل إليه آخر هو المفترض الوهمي الذي ينحصر وجوده داخل مساحة النص.وتحدد الرسالة بالنص المكتوب الذي يحمل مضمونا دلاليا، فهي تحيل على الدلالة أو المفهوم الذي يحتويه الأثر الأدبي. وتقدم قناة الاتصال لذلك الأثر الأدبي الكيفيات الشكلية التي ينقل بها رسالته. فقناة الاتصال تتكون من مجموع العمليات المادية المتحققة، بدءا من كتابة المؤلف للنص، مرورا بالناشر والطابع وعملية التسويق والنشر والقوانين المنظمة لكل تلك الفعاليات، وصولا إلى فعل القراءة وتملك القارئ للنص في صورة كتاب.أما المرجع في الاتصال الأدبي فهو مرجع نصي؛ فالمؤلف، خلافا للمؤرخ وعالم الاجتماع، لا يمنعه منطق الكتابة الأدبية من إعادة تشكيل الواقع أو اختلاق بعض عناصره. وتبرز في هذا السياق أهمية الشفرة - السنن ، إذ يحمل الاتصال الأدبي الشفرة اللغوية قيما جمالية واجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية ، تلتف حول العمل الأدبي الذي ينجزه الكاتب والقارئ، كل من موقعه حسب العصر الذي يعيش فيه.ويتعرض الاتصال الأدبي للتشويش نتيجة لعراقيل تقنية عديدة ؛ تتمثل في سوء الطباعة وكثرة الأخطاء المطبعية ، وسوء توزيع الكتاب وتسويقه، أو في انعدام التساوي في الكفاية اللغوية بين الكاتب والقارئ، أو في غياب التوافق بينهما في الشفرة الجمالية أو الثقافية. كما تعرقل الرقابة الاتصال الأدبي، فهي "تؤثر تقنيا على قناة الاتصال، فتمنع إنتاج الرسالة ونشرها وتلقيها، وتؤثر في الوقت عينه في المؤلف"[3]، وقد يتراوح ذلك التأثير على المؤلف بين الضرر المعنوي والنفسي والمادي وبين الصمت الرمزي أو الموت الأدبي.

 الأثر الأدبي وحدوده:

يتسم مفهوم الأدب ـ شأنه في ذلك شأن الحقول الأدبية ومفاهيمها ـ بالغموض وعدم الدقة وسرعة التبدل. ولذلك يرى إيمانويل فريس أن الإحاطة بالأدب تتم من خلال الإحاطة بتمثيلاته واستعمالاته عبر الزمان والمكان والمجتمعات. ويعني باستعمالات الأدب طرق النشر والاحتكاك بالمجتمع والنقد المرافق وأشكال القراءة ، ويلاحظ أن تلك الاستعمالات بدورها تتحول إلى عناصر مكونة للصنيع الأدبي. (قضايا أدبية عامة ص 67).



أما تمثيلات الأدب فيقصد بها النص والأثر الأدبيين، ويقصد بها كذلك المختارات والمجموعات والملخصات الحاضنة لآثار مرحلة أو مجموعة أو نوع، والمنتخبة لصفحات أو قصائد أو مشاهد من أعمال أدبية وفق اختيار مبتدعيها وتنسيقهم.ويخضع النص، فضلا عن إعادة الاكتشاف، إلى إعادة التصنيف؛ فالنص العلمي، أو على الأقل الحامل علنا للمعلومات والمعارف، قابل للتحول إلى أدب. والنص ذو المنحى الأدبي قادر تماما على حمل المعرفة مادام قادرا على تحريك المشاعر وعلى التعريف بالعالم.



 وهكذا يبدو واضحا إقرار فريس بأن تلقي النص مرهون بانتظارات المتلقين ونوعياتهم وخصائصهم وبمواضعات الثقافة وقيم المجتمع. وفي ذلك يقول: "يصبح المطلوب بالتأكيد هو تقدير الوجه "الأدبي" أو "الشعري" في النص. وبكلام علماء الأسلوب: تقدير درجة أدبية النص. ولكن هل الأدبية معطى دائم، أم معطى متغير عبر التاريخ، سواء ذابت وتبخرت أو دخلت النصوص وعدلتها مع الزمن؟. هاتان النظرتان تتواجهان جذريا، ففريق يعطي الأهمية لما هو تاريخي، اجتماعي، احتمالي، نسبي، وفريق آخر يرى أن الفن القوي مازال حيا في الأمة". (ص 74) وبمنأى عن الانحياز إلى أي فريق يصرح فريس بأن هذا الجدل لا مخرج منه، لأن النص الأدبي قادر ككل عمل فني على الإفلات من قبضة التاريخ الذي سمح بولادته وحددها.أما الأثر ـ وهو المفهوم الذي ارتبط بقدماء الكتاب الكبار، ثم بالكلاسيكيين، قبل أن يفرض نفسه في القرن الثامن عشر بصيغة الأثر (مثل مسرح كورني)، أو بصيغة الآثار الكاملة ـ فيعده فريس علامة على تحول مهم في مفهوم الأدب ونشره. حيث إن نشر الأثر يقابل ضمنيا بين المؤلفات المعروضة للتداول وفق إرادة الكاتب، وبين الكتابات أو المخطوطات التي يتم تداولها بعد وفاته ضمن مفهوم "الآثار الكاملة"، سواء أكانت معدة للنشر بإذن الكاتب أو كانت محفوظة بالقصد أو المصادفة. فالانتقال من الكتاب إلى الآثار الكاملة هو انتقال في حقوق المؤلف إلى استثمارات الورثة وأصحاب الحقوق، مما يجعل عملية النشر شكلا من أشكال عدم الأمانة.



ويتساءل فريس: "هل ينبغي على المبدع المعترف به (وعلى أبنائه من خلاله) أن يتخلى عن كل كتابة حميمة لأنه اقترب من الخلود ؟... هل ينبغي كتم المعلومة بحجة حماية الحياة الخاصة للميت الذي دخل، من خلال النشر، حياة القراء الحميمة ؟" (ص 82).بناء على ذلك لا تتحدد فاعلية المؤلف في إنتاجه لأثاره، فهو ينفرد بوظيفة أخرى سماها ميشيل فوكو "وظيفة تصنيفية" ويدعوها إيمانويل فريس "وظيفة نظرية ومادية" وتتمثل في تعيين الأثر، وضمان حدوده، وتعديله ومساءلته. ومن ثم يؤثر البعد العملي لوظيفة المؤلف تأثيرا مباشرا في مفهوم النص، إذ يجمع هذا البعد نتاجات مختلفة ومتباينة (روايات ـ أشعار ـ رسائل ـ مقالات ـ يوميات ـ رسوم ـ ملاحظات ـ ترجمات...) داخل بند "الأثر" موحيا بوحدة الأنواع والخطابات والمشاريع المتباعدة كليا.وعلى الرغم من استثمار الفصل لتحديد رولان بارط ـ في مرحلته البنيوية ضمن مقالته "نظرية النص" 1973 ـ للنص والأثر، حيث يقول بارط: "الأثر تحمله اليد، النص تحمله اللغة" منتصرا للنص ضد الأثر، نظرا لأن الأثر شيء منجز محصور بحدوده المادية، أما النص فلا يخضع للإحصاء، فهو حقل منهجي لا يتحقق إلا بالعمل والدلالة. إلا أن فريس يسمي ذلك التمييز تهربا لبقا أمام مسألة بحثية وخيارات محسوسة في النشر يطرحها تعريف الأثر وحدوده. (ص 92)فالأثر مغلق في حدود كتاب ومؤلف ومجتمع وعصر، لكنه مفتوح على آثار سبقته، أو أكملته، أو استشهدت به، أو نقضته، أو حاورته. وهو مفتوح أيضا على الحوارات والأصداء التي تتعدى العصور والثقافات. لأجل ذلك يعلن فريس ـ آخر الفصل ـ أن: "التوتر أو الجدلية بين الانغلاق والانفتاح، والانحصار والامتداد، والاختيار والتناهي، هو الذي يساهم في توضح التساؤل عن مفهوم الأدب بالذات". (ص 98).



 II    ـ قراءة في المرجعيات وآفاق النظرية:



تستند القراءة النقدية ـ ضمن هذا المقال ـ على تحيين تأمل في التصورات المعروضة، في ضوء ملمحين بارزين للكتاب، أولهما جنسيته الفرنسية المنعوتة في الآونة الأخيرة، بالتراجع النظري والانسحاب الفكري مقابل المد الأنجلوسكسوني والإشعاع الجرماني، وثانيهما رسمه لمعالم للتفكير حول الأدب في بداية الألفية الثالثة.



  1ـ النظرية والاستقراء: يرسخ إيمانويل فريس وبرنار موراليس خاصية النقد والتنظير الغربيين (مع تبن واضح للطابع الفرنسي أولا ثم الأوروبي ثانيا) القائمة على نهج استقرائي يستمد النظرية من النصوص الأدبية. فالمؤلف يبني تصوراته حول الأدب على عوالم النصوص ومعالم الإبداع لأدباء وشعراء وروائيين كثر (بلزاك، باسكال، مالارميه، هيجو، بروست، ساد، فلوبير، سرفانتيس، رامبو، جورج صاند، نرفال، بودلير، زولا...) والكاتبان يصرحان بالقول: "لا يمكن ... وضع خط فاصل بين الفن والنقد. فـ"الأوهام الضائعة" هي بالقدر نفسه، حكاية كتبها بلزاك في منتصف فترة ملكية يوليو، وعرض حقيقي لـ "أصول الفن" التي رسمها بيير بورديو بعد ذلك بمائة وخمسين سنة". (ص 10). في إحالة إلى كتاب "Les règles de l’art" لبورديو (صدر سنة 1992 عن Seuil-Paris).لأجل ذلك فالنقد والتنظير، في هذا المؤلف، يعارض التلخيص، إذ يظل الكتاب كتابا بتفاصيله التمثيلية ونماذجه النصية. وادعاء إنجاز تلخيص لمرتكزاته النظرية أو لأسسه النقدية ادعاء قاصر، في ظل تصور نظري نقدي يجعل الأثر الأدبي قوام النظرية، ويجعل النظرية الأدبية قراءة للأثرأوالعمل الأدبيين.



وانتقالا من المنظر إلى قارئ النظرية، يخاطب المؤلف / المؤلفان، عموما، قارئا أدبيا شغوفا بالأعمال الإبداعية التي يتأسس عليها التنظير. وشغف هذا القارئ ليس شغف هاو، بل شغف ناقد متمرس خبير بالآثار الأدبية. فطبيعة التنظير للأدب تحول القارئ إلى مشارك للمنظر / الناقد، في إنتاج النظرية، حيث إن المنظر ـ عبر مراكمته للنماذج والأمثلة دون الوصول إلى تحصيل الاستنتاجات ـ يفترض في قارئه الفطنة والذكاء والقدرة على إغناء العمل وترجمة التلميح إلى تصريح. ويؤكد كل من فريس وموراليس ذلك عندما يكشفان اقتناعهما بقول فولتير: "إن الكتب الأكثر نفعا هي تلك التي يكتب القراء نصفها، يوسعون الأفكار التي نقدم لهم بذورها، ويصححون ما يبدو ناقصا فيها، ويعززون بتفكيرهم ما يبدو لهم ضعيفا".(ص 12).ويحق التساؤل، إلى أي حد يستفيد، بالفعل، القارئ العربي من ملاحقة قراءة النظرية الأدبية (فرنسية أو إنجليزية أو أمريكية ...) للنصوص الإبداعية الغربية، في ظل مقروئيته شبه المنعدمة لتلك النصوص؟ !!.. 



 2ـ المرجعيات والرهان: لم يصدر الكاتبان عن منهج نقدي واضح المعالم، بل تعددت مرجعياتهما، (ياكبسون، لانسون، بورديو، سبينوزا، ياوس، سارتر، فوكو، مدام دوستال، نورثروب فراي، إيكو، ميشونيك، ديكارت، بارط، جنيت ...) وتداخلت فيها الشعرية بسوسيولوجيا القراءة ونظرية التلقي، وتلاحمت فيها البنيوية بعلم الاجتماع والأسلوبية. غير أن تلك التعددية لا تخفي ميلا ظاهرا إلى التوليف بين المنظور الاجتماعي في صورته مع بيير بورديو، والمنظور الأدبي/الشعري المحتفي بفعالية القارئ في كشف دلالة النص وجماليته.ولقد كان ذلك التوليف ـ في غمار تتبعه لعوامل الاتصال الأدبي ولما يعترضها من تشويش، وفي عمق سعيه للإحاطة بتمثيلات الأدب من خلال النص والأثر الأدبيين ـ يراهن على استحضار ما أعلنته حنه أرندت عن أزمة التعليم وأزمة الثقافة.



ومن ثم فآفاق نظرية الأدب ـ في الفصلين وفي الكتاب بأكمله ـ محكومة بهاجس تشكيل النخب، حيث إن قراءة الأدب ليست متعة قارئ وحيد، "فوراء القراءة الفردية، ينشأ سؤال ذو طابع مؤسسي، يحيلنا ببساطة إلى مفهوم سياسة تنشئة النخب، فهل يمكن لتحليل الشأن الأدبي أن يجد في هذه السياسة مكانه الصحيح، مع الأخذ بالاعتبار المشاغل التي يخلقها على صعيد المناهج والنظر الإبستمولوجي". (ص 12).فالأدب ـ حسب الكاتبين ـ ممارسة ومؤسسة تتدخل في إنتاجها هيئات مختلفة، وتتقاطع في الاهتمام بها فئات متعددة من الجمهور، بتوجيه جلي أو ضمني، تمارسه كل من المؤسسة الثقافية والمؤسسة التعليمية. ويفضي هذا الطرح السوسيولوجي إلى التساؤل حول مدى إدراك واضعي البرامج والمناهج التعليمية ـ وهم في الغالب يمثلون المؤسستين التعليمية والثقافية في الآن نفسه ـ لأثر الدرس الأدبي في تشكيل الوعي النقدي لدى التلاميذ والطلبة في مختلف أسلاك التعليم والدراسة في الوطن العربي.



3ـ آفاق النظرية: يزامن استجلاء فريس وموراليس لقضايا الأدب، أزمة ما بعد الحداثة في العالم المتقدم، وهي أزمة "موت الواقع" أو أزمة  "الواقع الافتراضي"، حسب تحديد جان بودريار، حيث إن النص الافتراضي يكتسح العالم من خلال ثقافة الصورة وسلطة الإعلام التلفزي. فتحرير الصورة ينتج التلاعب المفتوح والخبيث بالواقع. والتقدم في المكننة وتطور تكنولوجيا الافتراضي (فيديو، شاشة تفاعلية، أنترنيت، تلفزيون الواقع ...) يحيلان إلى تذويب التمييز بين الإنسان والآلة، وإلى إحلال الذكاء الاصطناعي محل الفكر. والتعامل مع الشبكة العنكبوتية يعلن نهاية خطاب الهوية وقضايا الغيرية[4].



في ضوء المنظور ما بعد الحداثي، لا يتعرض الاتصال الأدبي (بعوامله الستة المستعارة من الاتصال اللغوي) للتشويش نتيجة للعراقيل التقنية المعروضة آنفا، بل يتعرض للتشويش ـ أيضا ـ بسبب امتدادات العالم الرقمي الذي قوى دعائمه في كل الصناعات بما في ذلك "صناعة الثقافة". ولذلك تمثل عودة القارئ إلى الآثار الأدبية استشرافا لقيم مفتقدة في سوق التداول الرمزي. فالإعلام التلفزي الذي يحاصر الإنسان من كل ناحية، ليس إلا وهما، لكن هذا الوهم قد "تحول داخل اللاوعي الجماعي إلى بديل يقوم مقام جميع القيم الأخرى"[5].



يغدو بحث فريس موراليس عن آفاق جديدة للدراسات الأدبية ـ احتماء بقيم مصادرة في الوضع الجديد للثقافة المعاصرة ـ بمثابة احتفاء بكينونة منسية لإنسان انفلتت منه هويته. ففي ظل الحدود الوهمية للعالم الافتراضي، وفي ظل ابتلاعه للفوارق الفاصلة بين الواقع والخيال، يحرر النص الأدبي قارئه من مخالب النص الافتراضي، لكي يستعيد ذلك القارئ وجوده الإنساني، ويستمد من العمق الروحي للأدب، منظومة قيم ذات أبعاد متعددة فلسفية وجمالية وثقافية وأخلاقية واجتماعية ونفسية ... وغيرها، تدعم هويته المتميزة، وتدفع عنه مخاطر التحول إلى "واقع افتراضي للآلة".ويمكن، في هذا السياق، اقتباس حديث ميلان كونديرا عن الرواية إذ يقول: "إن الرواية تلازم الإنسان باستمرار و بوفاء منذ بداية الأزمنة الحديثة، فقد تملكها (الرواية) "الشغف بالمعرفة" ... لكي تتقصى الحياة الملموسة للإنسان وتحميها ضد "نسيان الكينونة"، ولكي تبقي على "عالم الحياة " مضاء باستمرار"[6].



فما تتيحه الرواية للقارئ (أو للمبدع أو للناقد أو للمنظر) جزء مما يتيحه الأدب وما تتيحه نظرية الأدب، متعة التفكير في فكر يمتع، وتواصل بين الكاتب والقارئ يخترق الأثر الأدبي، ويعيد فيه القارئ استكشاف ذاته. وفي ذلك يقول بول ريكور: "إننا ... لا نفهم أنفسنا إلا بخفايا علامات البشرية المبثوثة في الآثار الثقافية، ماذا كنا سنعرف عن الحب والكراهية، عن الأحاسيس الأخلاقية، وبعامة عن كل ما نسميه ذاتا، لو لم ينقل ذلك إلى كلام ولم يبين بالأدب ؟"[7].







الإحالات:



[1] عنوان المؤلف، « Questions Générales de Littérature »  : لإيمانويل فريس وبرنار موراليس ـ صدر عنSeuil سنة 2001، و صدرت النسخة العربية - و هي المعتمدة في هذا المقال النقدي - بعنوان "قضايا أدبية عامة : آفاق جديدة في نظرية الأدب"  ترجمة   د لطيف زيتوني، عن سلسلة عالم المعرفة ، عدد 300 فبراير 2004.



[2]  ـ قضايا أدبية عامة ص 8.



[3]  ـ نفسه، ص 61.



[4]  ـ جان بودريار ـ الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع ـ ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار ـ دار توبقال الطبعة الأولى 2006، ص 71.



[5]  ـ نفسه ، ص 51.



[6]  ـ ميلان كونديرا، فن الرواية ـ ترجمة كمال التومي ـ الحداثة وانتقاداتها ج 1 ـ إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. سلسلة دفاتر فلسفية عدد 11، دار توبقال ـ ط 1 ـ 2006. ص 114-115.



[7]  ـ بول ريكور ـ من الـنص إلى الفعـل ـ ترجمة محمد بـرادة وحسان بورقـية ـ دار الأمان ـ الطـبعـة الأولى 2004 ، ص 80




الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

في انتظار الفجر



يا حرقةً في القلب لا نعرف كيف ندفعكِ عنّا..
 كلمّا انصرفنا عنّا لننساكِ فينا، حينا..
 هتف خرسُ الخلايا فينا..
.. إنّي هنا
.. إنّي هنا
.. لكم إيمانا..
 فلا تقسوا.
.. منكم .. فيكم.. إمعانا..
 فلا تنسوا.
 عليكم .. بكم سيّانا..
 فلا تأسوا.
 مهما هرمتُ..
 ليلُكم القديمُ الجديدُ..
 فلا تُمسوا.
 أنا الأصلُ..
  أنا الفصلُ..
 أنا الوصل..
 أنا المصل.
 أنا الوجدُ..
 و الفقدُ..
 و العَمْدُ..
 و الأَوْدُ..
 و الوِلْد..
 و الوعد..
 و اللحدُ.
 فمن يحملني لصبحٍ يشتريني..
 و يلتحفَ بالصخرة آخرَ أنيني.

الأحد، 18 سبتمبر 2011

أنا العربي.. فهل ما زلت تدَّعي أنَّك الحاكمُ بأمر الله؟!

هل لأنِّي لم أتركـك تـتسلّق ما تـبقّى من أحلامي ليلاً، تذروني في صبح يومي كالغبار للرياح؟؟
هل لكـوني لم أشفع لكَ أمام التهاب طعنات غدرك في صدري، ينشقُّ لها قلبي كلّما أبعدتُ جانباً القميص الكاذب، تقتلني نهاراً مراراً تكراراً جهاراً...؟
..ألكونكَ استوطنتَ الشرايين وامتلكتَ براعم الآمال وافترشتَ رميم الأجداد، تظن الكونَ و الوعد و الحكم والورد و العمر و الخلد لكَ..
.. ألأنكَ لم تجِد في ليل الغريبِ الذي يدفـئـك، نوراً يضيء العتمة التي سكـنـتْـك، و ما أردتَ لها أن تصرِف سوادَها عن بياضٍ توسَّمناه لغدٍ نراه بدونك؟
تـبّاً لغروركَ ما أجهلَه..
.. تـبّاً لغروركَ ما أبشعَه..
.. تبّاً لغروركَ ما أجبنَه.
و تدّعي أنّك حامل البشاره..
.. و للدار مناره..
.. و للخير مداره.
سحقا لأمس أوْكـلـكَ بزهو عِـنانـه..
.. و أمهلـكَ اليوم و الغد ..
.. و ما استعجَلـكْ.
الغد لنا..
.. لأطفالنا..
.. لأحفادنا..
و نحن..
.. بالدماء..
.. بالعزاء..
.. بالأشلاء..
.. سنحرسُهْ.  

السبت، 17 سبتمبر 2011

ذات إبحار

نعود للإبحار ثانية..
سنعـطِّل دفّة القـيادة ونتـرك للأمواج أن تحمِلنا حيث تشاء. سنسمح للرياح أن تداعـب بين الفـينة و الأخرى أحلامَنا.. سنستسلم أمام بهاء الليل و سحر القمر.. و سنكـتم أنفاسنا كلّما عنّ للشمس أن تحرِق لهفـتنا، أو أن تصهر احتمالنا..
يا إلهي أتعبني نسيج الزمن و هو يحبك خيوطه من وله الانتظار.. أمقت هذا الانتظار الذي استفاض بلا كـلل..
.. سأرميها تلك الشباك دون اكتراث.. لم يعد في الوسع تردد آخر.. أوشك الرحيل على مغادرة المحطات المكتظة.. و الهدوء هناك.. هناك، آخر المسير، يفتح سكينـته لاستيعاب القادمين من قارّات الاحتدام..
سأرميها .. و لْيعْـلق فيها الذي أراد له حبّه للإبحار أن يتوّج جموحَ الحرية باعتقال النجوم.. 

الخميس، 15 سبتمبر 2011

غواية متاهة

                                                       25-6-2011    غواية متاهة

لو يسعفني حبُّك قليلاً..

في القلب شوق لا تخـمُد نيرانه أبداً..
و أنت على مسافة سفر.. هناك، أكتوي بلفح غيابك، و أخرِس أنيني بنبرات صوتك أقتنصها خلسةً من هاتفك الذي يمعنُ في نسياني..
.. كم أحبّك.. لو تدري..
و أنت على مرمى قبلةٍ.. هنا، يهزمني كبريائي فأغوص عميقاً في حضورك، و أنسى الوعد السرّي الذي أزهر متكتِّماً في انتظارك..
.. لو أحبّك.. فحسب كمّ ما تدري...  

الأحد، 11 سبتمبر 2011

مرحى... لا أملك غير ذلك

للحزن، حين يغمرنا متدفِّقاً من أقاصي نجهلها، نكهةُ حنينٍ إلى توازن أضعناه ذات انسلال نحو المجهول.. ذاك الغريب الجديد البعيد الذي أغوانا بمفاتن الدهشة، و أنكـَر منّا لاحقاً، حين امتطينا شهابه، كل هذا الانجراف.. أكلّما هدَّ الاجتياحُ مخزونَ العتـاقة فـينا.. شدا بالشجن إكـليلُ الجبل الذي وضعناه هناك في الزاوية، مندسّاً خلف خيط أبيض عساه يذكِّـرنا بأرجوحة بيت الجدة القديم..
.. عجباً للأماسي.. لا تُقبل على غروبٍ توهّمناه لأحزاننا، إلا بلـفح انبساط يغرينا ثانيةً، بالغوص عميقاً في انبجاس وجعٍ جديد.. كم يلزمنا من ألـمٍ كي نـنسى أنّنـا هنا زِنادُ الألـم...

السبت، 10 سبتمبر 2011

ضمير غائب



مرّت عابرةً في حياته.. لكنها كانت تسلب منه في كل مرور ابتسامة..
 لم يكن يملك أن يقاومها..  بإصرار غريب كان يتابع كل حركاتها..
 في البداية لم يهمه أن يعرف اسمها ، كان مكتفيا بإطلالتها يشرق بها صباحه.. لاحقاً رغب في أن يعرف من تكون، لكنه خشي أن يغيب البهاء حين تدركُ وجوده المتلصِّص على عفويتها.. في النهاية لم يعد الأمر مهِّما لأنها اختفت دون أن تترك أثراً يدلُّه على ديارها..
كانت الابتسامة المرسومة على شفتيه غنيمتَه الصباحية ،التي تعيد إليه الرغبة في مواصلة البحث عن غد أفضل..
لم تعد أيامه متشابهة ، منذ أطل محيّاها الجميل ذات صباح خريفي..
.. أصبح يمقت نهاية الأسبوع.. ودَّ لو استطاع حذفها لفرط ما كانت مملّة و محبطة..
 و رغم أنه متيقن من أنها لن تعبر من أمام المقهى صباح السبت و الأحد، لم يكن يخلف موعده أو استئثاره بالطاولة المحاذية للمدخل و المطلّة بسخاء على ناصية الشارع..
شاء القدر أن تعبر بجوار تلك الطاولة في أول اكتشافه لذلك المقهى.. فواظب على اعتياد عبورها البهي.. و واظب على تصفّح كل الجرائد المتاحة للزبناء، مقابل الدراهم التي كانت تمدُّه بها أمه خلسة من أبيه..
لم يكن يشعر بالانزعاج.. كان لأول مرة منذ حصوله على الإجازة متفائلاً؛ فإن لم تمنحه الإجازة جوازا لاقتحام سوق العـمل، ستجيز له طاولتُه الأثيرة البحثَ بين الإعلانات عن فرصة للتجرؤ و اقتحام وحدة تلك البهية الهاربة..

دامت ابتسامته ما دامت إطلالتها.. لكنها اختفت.. و اختفت معها ابتسامته...
لم ييأس ظل ينتظرها يوما بعد يوم..
 مر الأسبوع الأول و لم تعد..
واصل الانتظار في الأسبوع الثاني..
 الأسبوع الثالث فارق طاولته الأثيرة ليتنقَّل بين الطاولات الأخرى تلبية لطلبات الزبائن..
الأسبوع الرابع و هو يتوجه إلى طاولته القديمة لتلبية نداء زبون، وجدها أمامه بكل بهائها، كانت مشرقةً أكثر من المعتاد، أو هكذا بدت له بعد طول الغياب..
ـ قهوة نص نص ليا و باناتشي للمدام.
انفتحت أساريره كرهاً، لكنها لم تكن ابتسامةً تلك التي افْـترتْ عنها شفاهه، كانت ضحكةً مدوِّية تردَّد صداها في كل المقهى..
                                                                19-07-2011

الاثنين، 5 سبتمبر 2011

وردةُ الدم المحروق


                                                05-09-2011



مازالت الصحيفة  أمامها مفتوحة على الصفحة الثانية.. و دفتر يومياتها بين يديها.. و علامات الغياب تكسو محياها.
تذْكُر أوّل لقاء جمعهما في رحاب الكلية. قطف وردةً بيضاء و مدّها إليها. صاحبَه إحساس الندم أياماً عديدة، بعد الكلمات التي انفلتت منها بعفوية لم تستطع منعها، عن حبِّها للجمال الطبيعي، و كرهها لقطف الورود؛ فالأزهار لابد أن تذبل واقفةً، كما الأشجار حين تموت.
في اللقاء الثالث تجادلا طويلاً حول اختفاء شخصية سراب عفّان دون سابق إنذار، منفصلةً عن حبيبها وائل عمران، لكي تنخرط في صفوف الكفاح و النضال.. كانت رواية " يوميات سراب عفان " للفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا هديّتَها إليه في اللقاء الثاني.
البارحة استثـقلت الأسابيع الثلاثة المتبقِّية لانتهاء العطلة.
و.. اليوم انهار انتظارها.. الصحيفة تحمل اسمه و رسمه.. عيناه جاحظتان والابتسامة قد فارقت شفتيه..
و الدفتر على ركبتيها يكشف وردةً ذابلة حمراء..

                                                                     كُـتبت سنة 2004.