الجمعة، 10 نوفمبر 2023

بِجِـوارِ عـباءة اللغـة سعيدة تاقي

بِجِـوارِ عـباءة اللغـة

سعيدة تاقي

 

 

سأعترف في البداية بأنني لا أستأمِنُ اللغة كلِّياً على أفكاري وتأملاتي وخواطري. فعلاقتي باللغة ليست علاقة احتضان أو تَـمَـاهٍ كاملين، رغم أنني أكيل لها من العشق ما يفوق قدرة رصيدي النَّصِي على البوح، بل هي علاقة حبٍّ يشوبها الاحتراز والتهيُّب المتواصلين. فأنا لا أصدِّق اللغة في كل ما تدَّعيه من براءة التعبير الشفَّاف عن أغراض المتكلِّمات والمتكلِّمين، وهي الأخرى لا تصْـدُقُني المعجمَ أو الدلالةَ أو الإيحاء أو الانزياح أو الرمز حين يستغرقُني الوقوف أحيانا بين مداخِلِها لانتقاء المفردة الأخف من حيث الحمولة غير اللغوية. تبدو لي اللغة "لغتـنا" دائما تلك الماكرة ببراءة متناهية، لا تعبِّر ـ إذ نعـبِّـر ـ عما نقـصِـده، وإنما تعـبِّـر كذلك ـ إذ نعـبِّـرُ ـ عما تـقـصدُه هي منذ تـواريخ قديمة وجغرافيات مأهولة وفلسفات ساكنة.

إنها تحمل معنى المعنى ويفيض عن سواحلها من كل جانب الموج والزبد.

ما الذي يستدعي التصدير بهذا الاعتراف الأول؟ وهل الأمر فريد خاص يتجاوز الموضوع إلى الذات الفردية بالفعل؟

لا أظـن أن حال اللـغة التي نكـتب بلـسانها أو تكـتُبُ بلـسانـنا يخـتـلف كثيراً بين كاتـب وكاتب، لكنه يختلف بالتـأكيد بين كاتـبـة وكاتب. ولا يحـيل الأمر فحسب على "ذكـورة" المجـتمع كاتـبا وقـارئا أو "مُـنشِـئاً" للتاريخ الذي تتعـثَّرُ بين أذياله كل الأنوثة مُحتَجَزَةً تحت إكراهات عديدة مكتوبة بسلطة اليقين وسطوة المطلق، بل يحيل كذلك على "ذكورة" اللغة التي ندَّعي بمزيد من الاستكانة أنها تـتسِع للجميع، وأنَّنا نقف أمام عتباتها سواسيةً كأسنان المشط، وفي حضنها موطن لكل لاجئة أو لاجئ يبحثان عن كينونتهما داخل وُسع اللغة وعوالمها المفتوحة.

قد يكون من ترف الحديث الوقوف عند غياب الأمن داخل موطننا اللغوي وأوطانـنا على امـتداد الانـتماء والفـؤاد والجرح آهلةٌ بالاحتراب والفتن والاستقواء على المدنيين، لكن من قال إن اللغة لا تحمل بعضا من ذلك؟ أوَ لا يعْلَق بمخزونها في كل زمن فائضُ ما تنجزه الثقافة من هدم أو بناء؟

ألسنا ننتِـج ذواتِنا بين جنبات اللغة، فتحمل من جيناتنا بعضَ وجودِنا وتدُسُّـه على طُرُقـاتـنا آثـارا ستمشي خلفنا على هدْيِها أجيالٌ وأجيالٌ؟ ألسنا نقتفي داخل عباءة اللغة ما ادَّخرتْه لنا القرون السابقة من وجود وكينونة وذوات، نرتديها وترتضي لنا أن نكُون من "نحن" عليه الآن؟

إن اللغة تلك المحايدة عند الظن والمُسالمة وقت الشك، تلك التي تفتح أمام يقيننا كل الافتراضات وترصُّ لدهشتنا مزيدَ تنسيب، لا تطوي على الأسطر عناقَ الحروف للحركات أو مراوغة الكلمات للأفعال أو احتمال الأدوات لأكثر من دلالة. إنها تحفِر عميقا داخل مفهوم الوجود الإنساني وتمثُّلات الذوات عن الذوات، وتمثيلات الأنا لكل موضوع. إنها تحْـفر إذ تَخُطُّ الحاضرَ في نصٍّ أفقي طُولاً وعَـرْضاً في كلِّ التواريخ الماضية، توقظ سجلات الذاكرة الجمعية، وتستعيد لصالح "حيادها" المُدَّعى أعطاب اليقينيات السائدة. إنها تكتُبنا وفق ما كتَـبَـنا السابقون، وسنَكتُبُهنَّ أولائك القادماتُ وسنكتُبُهم أولائك القادمون بمنطق نضمِّخُه أعطابـنا وسجلاتنا ويقينياتنا وشكوكنا.

فلنَدَعْ عباءةَ اللغة جانبا قـليلا سـيداتي الكـاتبات، ولنـمـرَّ إلى جوارهـا بتـأمُّـل كـيِّـس، أو لننزعْها عن جِلدِنا بعض الوقت متى أمكَننا ذلك، ولنُعاوِدْ صُنعَها على مزاج ذواتِنا الفردية المميَّزة بالأنوثة كي نؤنِّثَ العالَم قليلا.

 

 

ـ أستاذة وباحثة أكاديمية من المغرب.

نشر المقال بالقدس العربي.

 


الأحد، 5 نوفمبر 2023

سعيدة تاقي: الرواية لم تحقق ما حققه الشعر بعد

*خالد حمّاد
المصدر /العرب اللندنية


ليس الأمر بالهيّن في الانتقال والترحال من بيت الشعر إلى دروب الرواية، وأن تكون في ذات الوقت سابحا في محيط النقد. قليل ونادر أن يمتلك مبدع كل هذا، وهذا ما نجحت فيه الشاعرة المغربية سعيدة تاقي؛ أن تقدّم نفسها الشاعرة والناقدة والروائية. وجاء تكريمها من قبل مؤسسة المثقف سيدني بمنحها درع المثقف للثقافة والأدب والفن، أكبر دليل على منجزها الإبداعي والنقدي. حول تجربة سعيدة تاقي كان لـ”العرب” هذا الحوار معها.
لا تعتقد الشاعرة والناقدة المغربية سعيدة تاقي أن البدايات هي طور منصرم من أطوار الحياة، وآيل للتسجيل في ذاكرة الإنسان، ونستدعيه لتخليد ذكراه بالعودة إلى الماضي. فالبدايات عندها فصل نجدده كل يوم عبر وعـودنا لذواتنا بالبقاء والصمود والتجدد، وعبر وعودنا للحـياة بتحقيق الآمال وتفعيل الأحلام. البدايات متعددة نحياها بوتيرة متواصلة ومتفرّدة. وهي لا تتكرّر، لكنها بحكم الترابط الذي يصل بينها تنتج وحدة بالتراكم.

حياة الأدب

في حديثنا عن البدايات وماذا يتبقي منها في ذاكرة المبدع، وإن كانت شخصية الناقدة تضيف إلى المبدعة بالنسبة إلى الشاعرة والناقدة المغربية سعيدة تاقي، تقول الشاعرة “النقد لا يضيف للمبدع إلا بقدر ما يسلبه. فالكتابة الإبداعية فعل خـلـق وتحرّر وتحرير، والممارسة النقدية فعل إدراك وضبط وتقييد، وكلما اتسعت الرؤية تضيق فعلا العبارة؛ أقصد كلما اتسعت الرؤية النقدية بالعمق الفكري والنضج المعرفي أثـقـل لاوعي الكتابة الإبداعية بأسئلة الجدوى ومحايثة العالم”.

ترى الناقدة والمبدعة سعيدة تاقي الأدب في التحولات السياسية والاجتماعية التي تعرفها المجتمعات العربية على أنه مواكب للحياة عموما، فهو فصل من فصولها المنتجة. ولأجل ذلك فمن الطبيعي أن ينشغل بكل ما يمرّ به عالم الحياة من تحوّلات. لكن ينبغي، في رأيها، أن نعي بأن الأدب لا ينقل الواقع، ولا يعكس بصورة آليّة ما تشهده المجـتمعات من حيوات، ولا يناقش قـضايا الـناس والمجـتمع أو يحللها أو ينظّـر لها، ولذلك فهو ليس وسـيطا للفهـم أو للإفهام.

وتضيف قولها: الأدب إبداع يفكّر في الحياة بلغاته المميّزة والمتمايـزة. الأدب يقترح بالفعل تمثّلاته للحياة وللواقع وللوجود، لكنه لا يدّعي ملاحقة ما يقع أو متابعة ما يستجد، ولا يصحّ له أن يدّعي ذلك، فذاك امتياز الإنتاج الفكري وصلاحية المتابعة الصحفية وخاصية اليوميات التسجيلية. الأدب يحتاج إلى التروي والتحرّر من إكراه اللحظة. قد يختلف الأمر قليلا بين جنس الشعر وباقي الأجناس الأدبية الأخرى، نظرا لكون الشعر دفقة إبداعية لا تأنس إلى الحفظ أو التأجيل أو “التبريد” أو الاختمار. لكن هذا الاختلاف الواسم للشعر لا ينفي عن أصله الإبداعي خاصيتي التروي والتحرّر. لأجل ذلك ما يكتب على عجل يقرأ على عجل، ويتوارى كذلك على عجل.
وتؤكد سعيدة تاقي أن الأديب والمثقف كائنان منتميان إلى واقعهما الاجتماعي والسياسي والفكري والإبداعي، وأن كلا منهما يفكر في تلك التحولات المرصودة حاليا، لكن بطرائق مختلفة، وهذا مكمن الاغتناء. فمن الطبيعي أن تواصل الكتابة الأدبية مساراتها. ومن الطبيعي أن يبحث الكتّاب عن صيغهم الجديدة للإبداع والتجريب والخلق. ولا شك أن أعمالا عديدة قد تبنّت مخاض الحراك العربي أو عمدت إلى تصوير أجوائه أو سجلت انتماءها إليه. لكن في ظل الاشتراط المرحلي، الاستلهام وحده يمكن أن يكون مفيدا إبداعيا لإنتاج أدب ليس مهلهلا ولا يشكو من التقريرية أو من الاستعجال. فحياة الأدب مثل حياة الشعوب لا تقاس بالسنوات على أطراف الأصابع.

عن طبيعة الثقافة التكنولوجية في الممارسة العربية تعتبر تاقي أن الفضاء الرقمي خلق مساحة للتعبير متحرّرة من القيود التي تكبّل واقعنا الثقافي، وأن النشر الإلكتروني استوعب ممارسة مفتوحة على كل الاحتمالات مقارنة بالنشر الورقي. والأمر حين ننظر إليه، بعيدا عن مكامن النقص والخلل، يتيح للأدب وللإبداع عموما تفعيلا حقيقيا لروح الإبداع.

الأنوثة والشعر

عن الأنوثة في الكتابة بعيدا عن موقف صريح من وضع الأنوثة كحيز اجتماعي مهمّش ومعتدى عليه من السلط الاجتماعية والسياسية والثقافية بالتجاهل والاختلال والنكران، تقول سعيدة تاقي “فعل الكاتبة لا ينفصل عن التمثّلات السائدة داخل المجتمع بوعي أو بدون وعي. واللغة التي تحمل الكتابة تحمل الفكر الذي أنتـج اللغة، والذي أنتج الوعي بهوية الكتابة وبسلطة اللغة وباشتراطات الوجود.

إن الصور النمطية التي نحيا وسطها سـتعيد بالضرورة إنتاج تمثيلاتها إن لم تع الذات الكاتبة شرط التغيير، بحكم كون هذه الذات مازالت موصولة إلى الثقافة التي شكلت تلك الصور النمطية أو مازالت متماهية مع قيمها المتداولة. لأجل كل ذلك فعل الكتابة -عند الكاتبة مثله عند الكاتب- لا يمكنه أن يعيد بناء العالم بشكل يحترم إنسانية الإنسان دون امتثال لتصنيف بيولوجي أو جنسي أو اجتماعي”.
تقول الشاعرة عن الفجوة ما بين النقد والإبداع خاصة في ظل غياب نظرية نقدية عربية: إن هذا السـؤال يضعنا في صيغـته العامة أمام صورة الجزر المعـزولة في واقع مجتمعي تعـمه الفجـوات، وتتراكم على أبنيته التصدّعات. وذلك صحيح إلى حدّ بعيد.

قد يكون السبب في ذلك من منطلق يغرق في التشاؤم، تشظي قيم التآزر والتعاون في التشييد بين كل الفعاليات السياسية والفكرية والثقافية والإبداعية. وقد يكون السبب من منطلق يتمسك بالتفاؤل تحرّر الإرادات الفاعلة من سطوة النفوذ في التسيير واشتغالها دون انتظام موحّد، سعـيا إلى إرباك الفراغ وإمداد العطاء بالسبل الملائمة للإبداع والخلق والإنتاج والإشعاع. وقد يكون لتخصيص كل علاقة ثنائية يصوغها السؤال بتحليل منفرد، تركيب آخر ودلالات أخرى.

سعيدة تاقي كتبت الشعر ومن ثم قدمت للمكتبة العربية الرواية والنقد الأدبي وهي لا تحب النظر إلى الأجناس الأدبية، وكأنها فريق محاربين يتقاتل داخل حلبة صراع، والبقاء سيكون للأشرس، من منطلق أن الزمن ضيّق وثابت، ولا يحتمل غير سيادة جنس أدبي واحد. لأن الأجناس الأدبية كينونات حية تستطيع أن تنمو وأن تتطور. لكنها تستطيع أن تتحول وأن تتعايش كذلك.

تقول محدثتنا لقد أثبت الشعر في كل سيرورات الإنتاج الإنساني قدرته على الصمود بإبداع مبهر وروح خلاقة متجددة. وكشف عبر أنواعه وأنماطه وصيـغه الإبداعية قـبوله محاورة الأنساق الثقافية الموازية لوجوده، وانفـتاحه على أمداء تـطوّر الفكر الإنساني. ولا أظن أن الكون الشعـري، في زمننا هذا، سيفارق خواص وجوده ومعتاد سجله منذ زمن المعلّقات أو زمن التراجيديا الإغريقية أو قبلهما معا. أما فيما يخص الرواية فهي لا تمتلك في خزانة الإبداع البشري ما قد حقّقه جنس الشعر. إنها جنس إبداعي جديد مازال في طور النمو والاكتمال، يبحث عن صيغه ويجرّب أدواته.
_____

_____

السبت، 4 نوفمبر 2023

تصريفُ "المُشْـتَهى" في لُـغة "قـلم حمرة" سعيدة تاقي

 

تصريفُ "المُشْـتَهى" في لُـغة

"قـلم حمرة" °



هو سؤال لغوي بسيط. لا علاقة له تحديداً بالدرس اللساني. لكن قد يلزم أن ننفـتح عليه بوعي أكثر، لعلّنا نستفيد بما جادت به الدراسات الثقافية في مقاربة النَّـوْع التي أنَّـثَـتِ العالَم قليلاً.

هو سؤال ألحّ علي كثيرا هذه الأيام، وأنا أتابع حلقات المسلسل السّاحر "قلم حمرة"، لكاتبته يم مشهدي ومخرجه حاتم علي. قد أعود لاحقا إلى المسلسل بقراءة نقدية شاملة، حين تستوفي حلقاته منتهاها. لكن السؤال يظل فاتحاً لـشهـيَّة التأمل.

سبق لذلك السؤال أن حاصرني، قبل ثلاث سنوات حين كنت بصدد كتابة روايتي الأولى إيلافــ"هم"، التي عرفت طريقها مؤخَّراً إلى سوق التداول الرمزي مغربياً وعربياً. ولقد حسمتُ إجابتي حينها، وكتبتُ نص الرواية في ضوء رؤيتي السردية الخاصة.. غير أنني أثناء تسريدي لفصول الرواية، لم يكن السؤال نفسه، بالنسبة إلي مجرد سؤال لغوي بسيط.

يقول سؤالي الشهير: لماذا قد تتفِّـق السّاردة والبطلة على افتراض صيغة الفِـعل بالمُـذكّر، بينما لسانُ ضميرَيهِما معاً مؤنَّث؟

تبدو صيغة السؤال معقّدة، بما يدفع عن السؤال أي شبهة بساطة.

لِـنَصُـغْ السؤال بشكل تشخيصي أكثر من السابق..

لماذا تسرد الكاتبة على لسان بطلتها مثلاً، قولَها: "أنْ تتحرَّر من الرغبة يعني ببساطة أن تموت." (الحلقة الثانية من "قلم حمرة")، بدل أن تسرد على لسانها المضمونَ ذاته بعبارة: "أنْ تتحرَّري من الرغبة يعني ببساطة أن تموتي".

أو أن تقول البطلة في انسياب سردي يوجّه الأحداث ويؤطِّـرها على سبيل التمثيل: "أينما ذهبتَ وكيفما سألتَ يقولون لكَ أنتَ مخيَّر.. لكن ماذا يعني أن يكون ثمن خياركَ مرتفِعاً كثيراً، ويجوز أن يكون الثمن حياتكَ؟.. هل سيسمّى حينها خياراً متاحاً، أم سيكون حينها أمامكَ طريق واحد، أنتَ شبه مجبَـر على المشي فيه؟.." (الحلقة العشرون من المسلسل) بدل أن تتحدث البطلة/الساردة بضمير يعود على أنوثتها السجينة داخل أسْر المعتقل وأسر المجتمع وأسر متاهة الحياة وحدود اللغة الضيقة.

قد تبادرين، أو قد يبادر إلى الرد، ما الفرق بين الصيغتين، والمضمون واحد؟

سأعيد بدوري طرح سؤال الرد ذاته "ما الفرق بين الصيغتين، والمضمون واحد؟". لكن، عن استحقاق الصيغة الأولى للتداول دوماً دون استغراب، وامتناع شيوع الصيغة الثانية، رغم أن شرط التأنيث لغوياً حاضر.

ذكرتُ لَـكُـنَّ/(ــمْ) في البدء، أنّ السؤال سؤال لغوي بسيط.

لكن لنفكَّ شفرات تلك البساطة قليلاً.

أشرتُ سلفاً إلى أن المحفِّز الجديد لسؤالي القديم، هو انسياب السرد في المسلسل، على لسان البطلة/الساردة بتصريف لغوي ذُكوري يعيد إلى الواجهة عند المُشاهدة مَكر اللغة، التي تسيِّج كل القضايا ضمن حدودها، بوعي سابق في الوجود، حتى عن الوعي بتلك القضايا المطروحة. فاللغة بالتأكيد ليست بريئة تماماً وهي تبني العالَم، أو وهي تشيِّـدُ الرؤى.

الكاتبة المبدعة يم مشهدي وهي تحرِّر نص "قلم حمرة" على لسان شخصية وَرْد الكاتبة داخل المسلسل (الدور الذي تؤدِّيه بإبداع مُلفِت الممثلة سلافة معمار)، تغوص عميقاً في القضايا الراهنة للمأساة السورية بتشعّباتها الإنسانية. وتغوص كذلك عميقاً في مأساة الوجود الأنثوي.. وحين أقول المأساة أحيل على مفهوم التراجيديا الأرسطي، الذي يقتضي مكونات عديدة. من أهمها: المحـاكاة والفـعل والأشـخاص الفـاعلين والتـطهير (الكاطارسيس) بالشفقة أو الخوف واللغة المزودة بألوان التزيين واللحن والطول المعلوم.

وحين أقول الوجود الأنثوي، أحيل على فِعل الكينونة في العالَم، ذلك الفِعل المحكوم باشتراطات اجتماعية وثقافية وفـكرية... موازية لأن تكون الأنثى أنـثى داخل مجتمع اختار أن يكون ذكورياً، ويريدُ أنْ يظلّ كذلك..

الكاتبة يم مشهدي وهي تحكي العالَم من منظور وَرد الكاتبة المعتقَـلة (المعتـقـل السياسي/ وسجـن المنظومة الاجتماعية)، تصوغ جُـمـلها المفـيدة درامياً في فِـعْل حـفر واقع الرّتابة وتكسير روابط الجمود وتقويض ملامح الاستكانة. لكنها تصوغ تلك الجُمل، التي ترِد على لسان البطلة في سرد متدفِّق، بمنطق ضميرٍ مذكَّـر غالِب، لا يترك مساحة اللغة حرَّةً لتنسجَ ورْد جُـمَلها الفاعِلة بأنوثةٍ، حقُّها أن تسيطِر ضمن مجال ما تحكيه، وما تعيشه. فلقد كان من الممكن أن يسود ضميرُها المؤنث أثناء الحكي، الذي تمارسه من داخل المعتقل، تحريراً للمسلسل الذي تواصل عبره إرادة الحياة. فشخصية ورد الكاتبة هي المسيِّرة لفضاء الحكي ولتوالي الأحداث ضمن المسلسل الداخلي، في سياق رفضها للاستسلام لفكرة الانهيار داخل السجن..

هكذا تنسى الكاتبة الأولى (المبدعة يم مشهدي) فتنسى الكاتبة الثانية (شخصية ورد) تصريفَ ذلك "المشتهى" الذي أدهشنا في الحلقة الأولى من المسلسل، وشدّ أحلامَ تلقِّينا إلى إبداع قد يكتُبُ الحُمرة بلونٍ مغاير.

قد يكون تصريفُ "المشتهى" تأنـيثاً في اللغة صعباً، بحكم أنّ اللغة فِكرٌ ناجِزٌ وسائد، لا يتيحُ إمكانَ تغييره، دون الوعي باستبداده، ما دام يُعيد إنـتاج الضـوابط التي أنتجـتْه في البدء، على مستوى الحـياة والمجتمع والثقافة... وبحكم أن العمل الدرامي لا يكتمل وجودُه، دون التكامل الذي يقدمه نص يم مشهدي وإخراج حاتم علي وكامل الفريق الفني والتقني المتكاثف من أجل إنجاح المسلسل، والحشود المتلقِّية بشغف لحلقات العمل.

لكن أليس "المشتهى" هو اختراقٌ للواقِع بإعادة المَشْهَد من جديد؟


ــــــــــــــــ

ـ مسلسل "قلم حمرة" لكاتبته يم مشهدي ومخرجه حاتم علي.

ـ نشر المقال بصحيفة القدس العربي

https://www.alquds.co.uk/%d8%aa%d8%b5%d8%b1%d9%8a%d9%81%d9%8f-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f%d8%b4%d9%92%d8%aa%d9%8e%d9%87%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d9%8f%d8%ba%d8%a9-%d9%85%d8%b3%d9%84%d8%b3%d9%84-%d9%82%d9%84/


Importation en cours : 147375 octets sur 266431 importés.


 

أوزار ضمـير المتـكـلِّـم سعيدة تاقي

 

أوزار ضمـير المتـكـلِّـم

 

الشُبهة الأولى:

حين يستفيق ضمير المتكلِّم المفرَد من التِباس الواقع المترهِّل ويسْكُن إلى جسد النص السردي، حين يختار ذلك الضمير أن يعلن ذاتَه المفردة منذ جملة النص الافتتاحية، يوهِم القراءة من لحظة التَّـماس الأولى بأن للسيرة "الذاتية" بعضَ الشبهات.

القارئ حينها لا يشيِّد افتراضاته الخاصة وحسب حول ذلك الضمير المتكلِّم في بنائه السردي، بل يتجاوز البحث عن الدلالة التي يصوغها في تفاعله المباشر مع النص المكتوب  (هانز روبرت ياوس)، ويتجاوز مقصديات النص (أمبرطو إيكو)، تلك المقصديات التي تبنيها كل العلامات السيميائية المبثوثة بعناية الكتابة عبر جسد النص، إلى الحفر عميقا في نوايا الكتابة ومقصديات الذات الكاتبة، تلك الذات الموجودة فيزيائيا بشكل حقيقي خـارج النص من لحم ودم، الذات التي تركت النص وحيدا بين يدي القراءة يدافع عن ضعف الإحالة (بول ريكور)  بقوة الدلالة وصندوق العلامات.

قبل الإدانة بقليل:

غريب كيف تغدو الذات المتكـلِّمة بضمير المُفرَد ساحرةً بغواية الحرف حين تُسلِمُ للقراءة كلَّ المقاليد، تشدُّ الطَّرْفَ إلى المتابعة عرضاً وطولاً، وتدعو التأمل إلى قياس كل احتمالات التداخل وإمكانات الوجود وافتراضات التَّماهي.

في البال.. بـال كلِّ قراءة ما زال يـكْمُن بالطَبع والإرث وحلقات إعادة الإنتاج (بيير بوريو) ـ منذ تاريخ معطوب وجغرافيات متآكلة وفلسفة لا تركن إلى التصالح الوجودي مع مفهوم الاختلاف ـ هـوسٌ قديـم بالبحث عن الذات في كل موضوع، وبـ"شخصنة" كل مجرَّد أو قضية، وبكشف العُري في كل تستُّر، وبتوطين "الزَّعيم" في مُقدمة كل جماعة.

ولأن منطق الثقافة السائدة انشغَل منذ قرون عدة بسطوة الإجماع النافذ واستـقواء الفـرد بالجماعة وقياس الغائب على الشاهد، حتى تضخَّمت الذات المتكلمة بالمُفرَد وغدت متـكـلِّما جـمعاً يستفيد من فائـض القـوة الـرمزية دون إحالة حـقـيـقـة بالضرورة، فهو يُصدِر الأحكام والفتاوى ويقرِّر الأحوال والرُّسُوم ويبارك الأفراد والأحداث والمواسم. فإن ضمـيـر المتكـلِّم "السَّردي" الفـرد الأعـزل "البريء" مِنَ كل إحـالـة فـيزيـائـية أو عـيـنـية أو خارجية أو مَـقامِـية أو رمزية لا تَسْلم سريرتُه وهو يصرِّفُ أفعاله النحوية داخل لغة السرد على الورق، من اشـتهاء القراءة الآثــم.. اشتهاء أن يكون ذلك الضمـير المُفـرَد مـتورِّطاً بالفعــل والحدث والحـبكـة في إحالة "ذاتـية" نـصِّية وداخلية وسرية، ترتبط فيها الكـاتـبـة أو الكـاتـب باقـتـران وجـودي لا تـفـلَـح الأفكارُ المتواترة والجمل المتراصَّة والدلالات المنضَّدة في دفع تهمة النـية والقـصْد في التنكُّر خلف أقنعة التخييل القصصي أو السردي أو الروائي..

لماذا لا تفُـكُّ القراءةُ أَسْـرَ كلِّ الضمائر من غوايات الإدانة القَـبْلية؟ لماذا لا يصِحُّ للموضوع أو للسرد أو للقص أن يكون غُفلاً من كل سريرة "ذاتية" لمعاناة سابقة على الطرح أو التحليل أو التسريد أو القص؟

قَيْد المُرافعة:

في العمق كلُّ قراءة آثمة بِقـدر أو بآخر، لا يكفيها أن تستحضر بمَكْرٍ لذيذ كل مقروء سالـف يشبِه النـص أو يخـالِفه، يقـترن بقلم الكتابة أو يشاركه الجنس أو الإبداع أو الرأي.. ولا يكفيها أن تستدعي بمتعة مُستَـزيدة مُدركاتها السابقة عن ذلك القلم وماهيته أو هويته، بل إنها تخوض عميقا في التباس الذات والموضوع وتستنسخ من روح ذات السرد الواحدة ذواتٍ أخرى تسـيح فـوق فـضاء الـنـص المتعـدِّد باسم ضمير واحد يتحمَّل وحده مفـرداً أعزلَ دون إحالةٍ عـينـية أو خارجـية أو مَـقـامِـية أو رمزية كل أثـقـال الماضي والحاضر والمستقبل، دون مقاصد نقدية واضحة العلامات السيميائية النصية.

كلُّ ضميرِ متكـلِّمٍ مُفردٍ آسـرٌ، لا ينتصب سِحـرُه بين الأسطر والكلمات والأحرف، بل تنفتح للصورة الواحدة التي ينحتُها مئات المرايا المتقابلة، لا ترى بالضرورة الأصل المرسوم بعناية البنـية والتركيب والحبكة والدلالة، بل تترك لاحتمالات الأبعاد المتوازية والوسائط المتداخلة إمكان أن تخلق مع كل قراءة صوت كتابة أخرى غير تلك التي كانت في الأصل منشأ الدائرة التأويلية (ريكور) أو مُـفتَـتَح عمليات التفاعل والتوقع والنفي (ياوس).

بعد الإدانة بكثير:

كلُّ كـتابة غوايةٌ بسـبق انتشاء ووجـع ومـيلاد. لا تخـتار الضـمـير أو تـكتـب الـذات أو تترصَّد القارئ فحسب. إنها تشيِّد العالَـم بعـيداً عن قيوده الفيزيائية أو المرجعية أو التكوينية. إنها تخلق الإنسان الذي في غفلةِ بحثِهِ عن "الآخر" بين ثـنايا النص السردي لشُبهةِ متكلِّمٍ أعزل من أي انتماء إلى ذات جماعية "متضخِّـمة" في التاريخ أو في الجغرافية، يجدِّد مراياه الداخلية كذلك، وينتشي بوهم القبض على تلك "الأنـا" السردية المتربِّصة بكل قراءة "آثـمة"، ويصل ذلك الإنـسان في منتهى الالـتحام بسجـايا النـص إلى إدراك أن "الأنـا" السّـاردة/ وأو الـسـردية ـ تلك المبـثـوثـة في النــص، أو ذلك "الآخـر" الذي كان يتـرصَّده ويَشْتبِه في ضلوعه الكامل في فعل الكـتـابة بسبق ذات وهـوية وانتـماء ـ هي مقابـله الإنساني في عالَم النص.. ويصل إلى إدراك أن "الأنـا" الفردية المعيَّـنَة والتي تمتلك في زمن القراءة الذي يُنتِجه إحالةً ذاتيةً مقاميَّةً خارجية بالضرورة لأنها ببساطة ذاتُه هو أي الذات القارئة/ القارئ، هي مجرَّد "آخـر" أراد أن يستظِل بظل "أنـا" غير "أنـاه" الخاصة، أو هي في عمق أوزار ضمير المتكلِّم المُفرَد مجرَّدُ ذات ضمير متكلِّم آخر أعزل بعيداً عن كل انتماء إلى ذات جماعية "متضخِّمة"، يبحث عن "ميثاقِ" تحرُّر يُعيده إلى مُفْـردِه بعد أن تُمعِن القراءة في تحريره من كل "شُبهة" انتماء "تاريخي" أو "جغرافي" أو "مرجعي".

 


 

 

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

أنتَ حتماً تَكْـذبُ، إنْ صَدَقْـت

أنتَ حتماً تَكْـذبُ، إنْ صَدَقْـت
سعيدة تاقي


للتُّولِـيب أكثرُ من حكاية، لو يدرك الخريفُ الأرعن..
ـــــــــ

ـ 1 ـ
غداً
حينَ أحبُّكَ،
أَرجوكَ
لا تَلُمْ قلبي
البليد
إنْ فرَحاً،
بعطايا سمائِكَ
لمْ يُغنِّ.
أنتَ تَدري،
أَنِّي حرْصاً على حبِّكَ
الفَريـد
لمْ أعُدْ أغنّي.

*****

ـ 2 ـ
ورْدُ الصّباحِ
كانَ أحمرَ فاقعاً،
و الغُصنُ غضٌّ،
و المُنى عِـيد.
ورْدُ الظهيرة
لَاح أصفرَ الشّذى،
و الحزنُ غافٍ
و الحُلمُ بعيد.
ورْدُ المساء
باتَ أبيضَ ناصعاً،
لا الليلُ يرنو
للبدءِ الجديد،
و لا الفيضُ حَمى
الرَّوضَ العتيد.

أرجوكَ
لا تُحمِّلني دمَ العِطرِ
فجراً،
قَلَّ ما يكذِبُ الوردُ
حينَ يتلوَّن،
أو يُعـيد.

*****

ـ 3 ـ
ما دُمتَ أمامي
لنْ أنظُرَ خلفي.
موعودةٌ للأمل
في عينَيْـكَ
يُسلِمني
لِقُصُور الغد.
أتَـرى قَـلبي الطِّفل؟
.. أتَرى؟
ما حاجتي للمرايا،
ما دمتَ أمامي
و أنا خلفـكَ
أحمِلُ عُمْري
على كتِفيَّ
و أقْفو خُطاكَ.
ما حاجَتي للـقَـصـيـدِ
ما دُمتَ أنتَ أنْتَ،
و أنا الأنثى،
و الوعدُ يومٌ يَزيد
و الوردُ طِفلٌ وليد.
ما حاجتي للحبِّ
ما دمتَ أنتَ لي
و أنا الأنثى
خلفَكَ ألهثُ
من جمرِ الوعيد.
ما حاجتي إليَّ
ما دُمتَ أنتَ أنا،
و أنا الأنثى
خُنتُ ذاتي
و أسلَمتُـكَ
باسم الحبِّ
طوعاً كلَّ المقاليد.