دراسة و نـقـد

            
الشِّـعـر من القبيلة إلى القرية الإلكترونية
سعيدة تاقي

حضور الشعر في بنية الثقافة العربية راسخ فعلاً. فالشاعر منذ القِدم، لم يكن لسانَ حاله بل لسان القبيلة؛ يشِيد بأيامها ويخلّد أمجادها و يحمي أعراضها. و لذلك كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتتها القبائل مهنِّئة. لكن مع انطلاق علوم اللغة و النقد و البلاغة و الفقه و التفسير و الحديث و الفلسفة بدءً من أواخر القرن الثاني الهجري و تشييد الدواوين و بروز مكانة الكاتب، تراجع وضع الشاعر المبجَّل و تحوَّل إلى صانعٍ مبدع يجيد اللغة و يبدع في تشكيل صورها، خاضعاً لسياق التداول الذي يملي عليه النموذج المكتمل و شروطه في كل أغراض الشعر.
و غير بعيد عن ما نعته جمال الدين بن الشيخ بمفهوم 'القدامة الجديدة'، و هي المدرسة التي يراها صالحة للفترة الممتدة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر الهجري، يبدو أن الشعر قد ظلّ حاضراً طيلة هذه القرون مراوِحاً بين ثوابته و تحولاته، مراهناً على إشعاعه المواكب لكل الإنتاجات الإبداعية التي حايثـته أو بزغت في ظل حضوره الراجِح من أدب المقامات و النوادر و الأمثال و السرد و النثر الترسُّلي و المناظرات و الرحلات و السير، و الرواية و القصة و المسرح و المقالة وغيرها.
لم يُطرح في أي لحظة من ذلك المسار الإنتاجي الممتد في الثقافة العربية، سؤال الأجناس الأدبية، أو إشكال تحديدها. و رغم أن الشعرية العربية لم تشيِّد نظريتها و إنما بـنتْ على متن الشعر حواشي العلوم المختلفة، التي استدعاها الانتقال من ذاكرة الحفظ و الرواية إلى طور الكتابة و التقييد. فإن المفاضلة كانت في ذلك السياق محسومةً للشعر لأنه النتاج الأول. غير أنّ ما بلَـغـنا من صورة الشعر ما قبل ظهور الإسلام، لا يعني أن مفهوم الشعر، وفق ما كان شائعاً، لم يكن يملك إلا تلك الصورة الوحيدة، بل إن الغلبة كانت للأقوى الذي رسّخه الدرس اللـغوي لاحقاً لحظة جمع المتــن اللـغوي بالرواية و المشافــهة و الاستقراء.
ماذا يمكن القول عن لحظتنا المارقة الآن بامتدادها في المكان، لحظة القرية الإلكترونية التي تصرّ على وضع الشعر في مواجهة الرواية ضمن حلبة صراع مصطنَع، يغدو أمامها المتلقي مشاهداً يتابع عن بعد دون مشاركة فعلية؟
الشعر لم يعد جماهيرياً مثلما كان في الغنائية العربية و الملحمية الإغريقية اللاتينية و التراث الإبداعي لشعوب عديدة. أمّا الرواية فتُـثْـبِتُ جماهيريتها الآن عالمياً يوماً بعد يوم . أيعني ذلك أن الشعر لم يعد الأنسب للتعبير عن ضمير الأمة؟
لا شك أن حلقات الشعر الحيّة تنتِج مسالك بقائها و خلودها في كل الأزمنة، ذاك ما يقوله ثباتُ منظومة الشعر المتطورة في كل مسارات الإنتاج الإنساني الممتدة.
الذي لا يرغب في التغيُّر هو منطق الإقصاء. كان في زمن سابق يشتغل علناً لصالح الشعر، و اليوم يشتغل في الخفاء لصالح الرواية.
في ظل غياب الدراسات السوسيوثقافية للقراءة و لتداول الكِتاب، و هي في واقع الأمر إمكان ممتنع لكون ترسُّخ فعل القراءة بدوره إمكانـاً ممتنعاً تمنعه الأمية و الانشغال بالعيش و نخبوية الثقافة، لا يمكن الحديث عن وضع الشعر على مستوى التلقي و القراءة، عِلماً بأنّ الشعر لسبب تعرفه فحسب سطوة الناشرين قد غدا عدوَّ دور النشر.
العالم الرقمي لا ينفث الكراهية ضد الشعر. و التقنيات المتلاحقة لا تكيل له الحقد، بل على النقيض، الوسائط المتعدِّدة التي تشغل الناس اليوم تقتات في إنتاجاتها الجماهيرية على الشعرية، غير أن عين التلقي لا تدرك "القصائد العديدة" التي يبدِعها الشعر بروحه العظيمة المعطاء، خارج ما ينعته النقاد الأجلّاء بـ"جنس الشعر".


  



الإبداع و "صُكُـوكُ" الرِّواية
سعـيدة تاقي

الرواية تلك المتهمة بالغـواية و المـدانة بالحـظوة قبل الكـتـابـة و بـعدها، أثـنـاء القراءة و دونها.. في حضن الإبداع و قيد الخَلْق و داخل غُـرَف التمارين المُغْـلَــقة و مقاعد مُحتَرَفات الـكـتابـة أو خُلوات القراءة الفردية.. تقاوم ذنوب الانـفـتاح و التجريب و الإنـشـاء و الارتـحـال و الحـشـو و الترهُّـل.. و تـتـحـمَّل أوزار التحـامـل و التـطـاول و التـعـسف.. و تمضي بمميِّزاتها التجنيسية لتواصل درب الوجـود على قيد الحياة و الخلق و الإبداع..
لكن الرصيد لا يصفو، بل يخالط مُنْجَزَه "الأصيل" وافِـدٌ كثير لا يكيل للهوية الأجناسية المرتَسِمَة بوضوحٍ في المتعالي النَّصي الذي شيَّدَته الرواية و ما زالت تشيِّدُه و ستواصل تشييدَه غيرَ المزيد من الإضرار.. ففي لحظة "الحظوة" التي تُنـعَتُ (أو "تُرمى"/"تُـقذَفُ") بها الـروايـة على مستوى الكتابة و النـشـر و الطـبـاعـة و التـوزيـع و التـرجمة و القـراءة و التداول و النقد و المواكبة، تنحسر معالم الإبداع الجيد و تتفشى ـ تحت الطلب ـ تمارين الكتابة التسريدية التي تُلْحَق عنوة بجنس الرواية.

من الحكاية إلى الرواية:
الرواية ليست مقابلاً للحكاية، حيث تتوالى الأحداث في مسار زمني أفقي يحترم خطية التعاقب، و يمضي بالمتلقي من متوالية أولى إلى ثانية فثالثة...، وصولا إلى الأخيرة. فتكون المتوالية الأخيرة إيذاناً بفك العقدة أو العقد التي ربطتها المتواليات السابقة، و تلميحا بالموقف الذي قد يكون مناسبا للاستخلاص من كل الأحداث المتتابعة، و الذي سيعلق بالتأكيـد بذهن المتـلقي و يشحذ طاقاته للتفكير في النهاية التي آلت إليها الحكاية. الرواية جنس إبداعي يتجاوز مستوى الحكاية البسيطة إلى تشييد حبكة إبداعية تُحْكِم نَسْجَ أسْداء الحكي بلُحمة السرد على قدر ما يحيِّنُه الخطاب التسريدي المُبدِع. لأجل ذلك فإن كتابة الرواية تتجاوز أمداء الاسترسال في سـرد الحـكاية و التـقاط تعاقـب الأحـداث و خلق التشـويق و استدعاء القارئ/المروي له إلى الانتباه و التيقظ، و تحفيزه إلى استخلاص الدروس و العبر.
الــرواية ليست مجـرد احـتـمال نصي للحـكاية، يعثر لها على استمرار حي يغمرها بأطاييب عوالِمه و أنساقه. و الرواية ليست مجـرد سَـرْدٍ يستوعب القـصة و يفرِّعُ الأحداث و يتلاعب بمصائر الشخصيات.. إنها إبداع فني ينهل من التجريب الأدبي و التسريد النصي و يقتات على روح الخَلْـق الفياض، و ينثر بين كل ذلك حياة الواقع و دفق الثقافة و تأمل الفلسفة و حكمة التاريخ.

من الرواية إلى الرواية:
لا يقدِّم فِعْلُ الكتابة و رسْمُ الحرف على مستوى التشييد السردي في الرواية مقابلاً موضوعيا لفعل الحكي الشفهي أو الإلقاء التشخيصي في الحكاية الشفهية .
و لئن كان التقابل العيني بين الراوي و المروي له الذي قامت عليه الثقافة العربية في كل أنساقها الموروثة، قد استبد فعلاً في لحظة الانتقال من الطور الشفهي المَروي إلى طور التدوين و الكتابة بكل المحافل و السجـلات المـكتـوبة، في كل أصناف المعـرفة و البـلاغـة و الـنـحـو و التفـسير و الرواية و الفـقـه و الكلام و التأريخ... و واصل ترسيخ بنياته ضمن السجل المكتوب باعتماد محاورة الكاتب للحاكِم "الآمر بالكتابة" أو باعتماد محاورة الكاتب للمخاطَب المفترَض أو العيني (عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" مثلا)، بحيث ظلت بنية الرواية من راوٍ و مروي له مستضمَرة في جل الإنتاجات ضمن الطور المكتوب.
فإنه لا يصح بأي شكل من أشكال الاحـتـمال افتـراض تعـويض نسق التقابل بين الراوي و المروي له بقـناع الـسـارد أو تلك الشـخصـية الـورقـية التي تتحكم في كل البناء السردي و التشخيص الحكائي ضمن الحبكة الروائية. و لا يمكن لكتابة الرواية في "لحظة الحظوة" أن تعتقد أن اختلاق فعل الرواية (ثنائية الراوي و المروي له) عبر شخصية السارد النصي على مستوى السرد بإمكانه أن يستوعب الجنس الروائي إبداعياً، لأن هذا الأخير لا يرتوي بحضور السارد/الراوي أو بهيمنته أو باستبداده، بل إن للوصفة الروائية مقاديرَ أخرى تنزاح عن كلِّ ضبطٍ مروي أو تقـابُـل حكائي أو تحديد قبلي لنسق الإبداع.

من الرواية إلى الإبداع:
قد يكون التجريب حمَّال أوزار التطاول أو التحامل أو التعسُّف على الرواية، حتى في "لحظة الحظوة"، لكن الفعل الإبداعي بأصله الخلَّاق سيرورةُ تجريب لا تروي الظمأ للجديد المُبتَكر و المُدهِش. و الأدب في منشأ أجناسه و أنواعه و صيغه قائم على ما يتيحه التجريب من طاقة فعّالة تزوِّد الأدب بنسغ الحياة المتجدِّد في كل كتابة أو تحرير أدبين. بيد أن التوازن المفقود بين ما يعنيه التجريب للإبداع و الخَلْـق و الأدب في الأصل، و بين ما قد يتيحه من مساحات لعب أو تلاعب و إنتاج تحت الطلب في مُنتَهى درب التمرين، يقحمُ جنس الرواية في "طبخات" سردية عديدة، لا تحمل من خواص الجنس سوى التحديد القبلي الموضوع على غلاف العمل المنشور باسم "سلطة" الكتابة و رعاية سوق النشر.
لا شك في خاتمة المطاف أن كل تراكم يفيد قدرة المجال على الابتكار و التنويع، لأن التنوع و الاختلاف و التباين وضع طبيعي و سنة مطلوبة لتفعيل تمايز القوي عن الضعيف و الجيد عن الرديء و المبدِع عن غيره، مما يقتضي أن ما قد يتحقَّق من إنتاجات لابد أن يخضع للمتابعة و للفرز و للنقد دون مجاملة أو محاباة أو تسويق تجاري. لكن في عمق الكثرة هناك خسائرُ عديدة لا تعضِّد رصـيد الجـنـس الأدبـي، و لا تسجَّـل لصالـح تعـزيز قـنوات القـراءة، و لا تفـيد أصل الكتابة أو الإبداع أو الخَـلْـق أو الأدب.

إن الروايـة ليست متـناً يتـوِّج فـائـض القيـمة الإبـداعـية للـشعر أو للقـصة أو للمـسرح أو للتشكـيل أو للموسيقى أو للسينما، أو يتـوِّج مـقــامـات الظـفـر في الســياسة أو الـتاريخ أو الفـكـر أو الإعلام أو النقد... إن الكـتـابة في أي مجال أو ضمن أي نسق لا تستـقـيم ـ إبداعياً و فكرياً و وجودياً ـ دون الالتزام العفوي بمواثيق الكتابة في ذلك المجال أو ذلك النسق، و دون الالتزام بالحرص الصادق على إغـناء ذلك المجال/النسق و منجَزه الإنساني. لأجل ذلك فإن البحث عن صكوك الإبداع بين ثنايا كتابة "الرواية" لا يكشف سوأة الكتابة في لحظتها فحسب، بل إنه يعــرِّي قـيم الإبـداع و الخَلق و التفكير التي لم تكن مرتكِنة إلى أسس سليمة، حتى في لحظات كتابة سابقة في مُنجَز قبلي.

     





 آفاق الدراسات الأدبية في الألفية الثالثة

                                              سعيدة تاقي

                                                                                              الجمعة 30 شتنبر 2011  - 14:12
مدخل :



ينطلق إيمانويل فريس Emmanuel Fraisse وبرنار موراليس Bernard Mouralis في كتابهما المشترك "قضايا أدبية عامة"[1]، من الجدل الذي عرفته الساحة الفرنسية حول دخول الدراسات الأدبية زمن الشك، وقد نقلت الصحافة الفرنسية أصداء ذلك الجدل، بتوقيع مئة وعشرين شخصية معروفة على عريضة تحمل عنوانا لها "إنهم يغتالون الأدب في شارع غرونبل"، نشرتها جريدة لوموند في الرابع من مارس سنة 2000، ليست أزمة الدراسات الأدبية، وفق منظور الكاتبين، فرنسية وليست جديدة بل إنها تواكب خطر تزايد الأمية والقلق من قوة وسائل الإعلام، وصعوبة تعريف القيم ونقلها إلى الأجيال الصاعدة، ويعكس كل ذلك سمات العالم الحديث الذي تنبأت له حنه أرندت  Hannah Arendt منذ الخمسينات بأزمتين متواشجين هما "أزمة تعليم" و"أزمة ثقافة".



وعلى الرغم من كون ذلك الجدل في فرنسا قد أكد أهمية الدراسات الأدبية بوصفها موجها للحس المدني والنقدي ولاكتساب حسن الاستدلال[2]؛ فإن المؤلفين فريس وموراليس يلحان على تغييب ذلك الجدل للتفكير في الأدب بوصفه أدبا. بيد أن ذلك لا يعني أن مؤلفهما يقدم نظرية أدبية للأدب، أو أنه ينبني على مفهوم ضمني للشأن الأدبي يرسخ دعائم علم مؤكد، بل على النقيض من ذلك تجاوز الكاتبان طرح سؤال "ما الأدب ؟"، لأن الأدب ليس من المسلمات المتفق حولها، وانصرفا إلى استجلاء أربع قضايا تخص الأدب، بل تشكل حسبهما الوجود الأساس للأدب.



 . I       تصورات حول الأدب:



يبحث فريس وموراليس  ـ عبر كتابهما ـ عن آفاق جديدة لنظرية الأدب، قوام تلك الآفاق اختلاف زوايا النظر وتعدد المرجعيات، وسندها الإصرار على طرح الأسئلة دون ادعاء القدرة على إيجاد حل لها. فالمؤلف   يدرس أربع  قضايا  توزعت على أربعة فصول هي: الاتصال الأدبي ـ الأثر الأدبي وحدوده ـ الأدب والمعرفة ـ القراءة، قراءة الآخر.



 كتب برنار موراليس الفصلين الأول والثالث، وكتب إيمانويل فريس الفصلين الثاني والرابع. ولعل غياب الخاتمة أو الفصل الختامي التوفيقي يوحي، منذ البداية، بنزوع الكتاب إلى اقتراح تصورات ومحاورة تمثلات ومواضعات حول الأدب، بدل تأسيس نظرية للأدب أو تقديم إجابات جاهزة مكتملة، غير أن هذا الحكم هو مجرد فرضية تخضعها قراءة الفصلين الأولين من الكتاب للروز والتحقق النقديين.

  الاتصال الأدبي:

 يتبع برنار موراليس الطريق الممتد من تصور الكاتب للنص إلى تملك القارئ لهذا النص، ويقتفي في ذلك ترسيمة ياكبسون لعوامل الاتصال اللغوي، مبينا الملامح الخاصة للاتصال الأدبي الخطي أو المكتوب.المرسل في الاتصال الأدبي هو المؤلف (فردا أو مجموعة أفراد)، له وجود تاريخي مثبت، لا ينفيه مطلقا اختيار المؤلف أحيانا تقديم نفسه للقراء باستخدام اسم مستعار. ورغم كون  المرسل إليه ـ في الاتصال الأدبي ـ شخصا افتراضيا، فإن الكاتب عبر انتقاءات الكتابة (مستوى اللغة الشائعة أو المتخصصة، النوع الأدبي، نمط الكتابة، نوعية الإنتاج والتوزيع والشكل المادي للكتاب ...)  يتوجه  إلى جمهور محدد، محاولا تلبية رغباته، وهكذا فإلى جانب المرسل إليه الفعلي الحقيقي قارئ الكتاب، هناك مرسل إليه آخر هو المفترض الوهمي الذي ينحصر وجوده داخل مساحة النص.وتحدد الرسالة بالنص المكتوب الذي يحمل مضمونا دلاليا، فهي تحيل على الدلالة أو المفهوم الذي يحتويه الأثر الأدبي. وتقدم قناة الاتصال لذلك الأثر الأدبي الكيفيات الشكلية التي ينقل بها رسالته. فقناة الاتصال تتكون من مجموع العمليات المادية المتحققة، بدءا من كتابة المؤلف للنص، مرورا بالناشر والطابع وعملية التسويق والنشر والقوانين المنظمة لكل تلك الفعاليات، وصولا إلى فعل القراءة وتملك القارئ للنص في صورة كتاب.أما المرجع في الاتصال الأدبي فهو مرجع نصي؛ فالمؤلف، خلافا للمؤرخ وعالم الاجتماع، لا يمنعه منطق الكتابة الأدبية من إعادة تشكيل الواقع أو اختلاق بعض عناصره. وتبرز في هذا السياق أهمية الشفرة - السنن ، إذ يحمل الاتصال الأدبي الشفرة اللغوية قيما جمالية واجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية ، تلتف حول العمل الأدبي الذي ينجزه الكاتب والقارئ، كل من موقعه حسب العصر الذي يعيش فيه.ويتعرض الاتصال الأدبي للتشويش نتيجة لعراقيل تقنية عديدة ؛ تتمثل في سوء الطباعة وكثرة الأخطاء المطبعية ، وسوء توزيع الكتاب وتسويقه، أو في انعدام التساوي في الكفاية اللغوية بين الكاتب والقارئ، أو في غياب التوافق بينهما في الشفرة الجمالية أو الثقافية. كما تعرقل الرقابة الاتصال الأدبي، فهي "تؤثر تقنيا على قناة الاتصال، فتمنع إنتاج الرسالة ونشرها وتلقيها، وتؤثر في الوقت عينه في المؤلف"[3]، وقد يتراوح ذلك التأثير على المؤلف بين الضرر المعنوي والنفسي والمادي وبين الصمت الرمزي أو الموت الأدبي.

 الأثر الأدبي وحدوده:

يتسم مفهوم الأدب ـ شأنه في ذلك شأن الحقول الأدبية ومفاهيمها ـ بالغموض وعدم الدقة وسرعة التبدل. ولذلك يرى إيمانويل فريس أن الإحاطة بالأدب تتم من خلال الإحاطة بتمثيلاته واستعمالاته عبر الزمان والمكان والمجتمعات. ويعني باستعمالات الأدب طرق النشر والاحتكاك بالمجتمع والنقد المرافق وأشكال القراءة ، ويلاحظ أن تلك الاستعمالات بدورها تتحول إلى عناصر مكونة للصنيع الأدبي. (قضايا أدبية عامة ص 67).



أما تمثيلات الأدب فيقصد بها النص والأثر الأدبيين، ويقصد بها كذلك المختارات والمجموعات والملخصات الحاضنة لآثار مرحلة أو مجموعة أو نوع، والمنتخبة لصفحات أو قصائد أو مشاهد من أعمال أدبية وفق اختيار مبتدعيها وتنسيقهم.ويخضع النص، فضلا عن إعادة الاكتشاف، إلى إعادة التصنيف؛ فالنص العلمي، أو على الأقل الحامل علنا للمعلومات والمعارف، قابل للتحول إلى أدب. والنص ذو المنحى الأدبي قادر تماما على حمل المعرفة مادام قادرا على تحريك المشاعر وعلى التعريف بالعالم.



 وهكذا يبدو واضحا إقرار فريس بأن تلقي النص مرهون بانتظارات المتلقين ونوعياتهم وخصائصهم وبمواضعات الثقافة وقيم المجتمع. وفي ذلك يقول: "يصبح المطلوب بالتأكيد هو تقدير الوجه "الأدبي" أو "الشعري" في النص. وبكلام علماء الأسلوب: تقدير درجة أدبية النص. ولكن هل الأدبية معطى دائم، أم معطى متغير عبر التاريخ، سواء ذابت وتبخرت أو دخلت النصوص وعدلتها مع الزمن؟. هاتان النظرتان تتواجهان جذريا، ففريق يعطي الأهمية لما هو تاريخي، اجتماعي، احتمالي، نسبي، وفريق آخر يرى أن الفن القوي مازال حيا في الأمة". (ص 74) وبمنأى عن الانحياز إلى أي فريق يصرح فريس بأن هذا الجدل لا مخرج منه، لأن النص الأدبي قادر ككل عمل فني على الإفلات من قبضة التاريخ الذي سمح بولادته وحددها.أما الأثر ـ وهو المفهوم الذي ارتبط بقدماء الكتاب الكبار، ثم بالكلاسيكيين، قبل أن يفرض نفسه في القرن الثامن عشر بصيغة الأثر (مثل مسرح كورني)، أو بصيغة الآثار الكاملة ـ فيعده فريس علامة على تحول مهم في مفهوم الأدب ونشره. حيث إن نشر الأثر يقابل ضمنيا بين المؤلفات المعروضة للتداول وفق إرادة الكاتب، وبين الكتابات أو المخطوطات التي يتم تداولها بعد وفاته ضمن مفهوم "الآثار الكاملة"، سواء أكانت معدة للنشر بإذن الكاتب أو كانت محفوظة بالقصد أو المصادفة. فالانتقال من الكتاب إلى الآثار الكاملة هو انتقال في حقوق المؤلف إلى استثمارات الورثة وأصحاب الحقوق، مما يجعل عملية النشر شكلا من أشكال عدم الأمانة.



ويتساءل فريس: "هل ينبغي على المبدع المعترف به (وعلى أبنائه من خلاله) أن يتخلى عن كل كتابة حميمة لأنه اقترب من الخلود ؟... هل ينبغي كتم المعلومة بحجة حماية الحياة الخاصة للميت الذي دخل، من خلال النشر، حياة القراء الحميمة ؟" (ص 82).بناء على ذلك لا تتحدد فاعلية المؤلف في إنتاجه لأثاره، فهو ينفرد بوظيفة أخرى سماها ميشيل فوكو "وظيفة تصنيفية" ويدعوها إيمانويل فريس "وظيفة نظرية ومادية" وتتمثل في تعيين الأثر، وضمان حدوده، وتعديله ومساءلته. ومن ثم يؤثر البعد العملي لوظيفة المؤلف تأثيرا مباشرا في مفهوم النص، إذ يجمع هذا البعد نتاجات مختلفة ومتباينة (روايات ـ أشعار ـ رسائل ـ مقالات ـ يوميات ـ رسوم ـ ملاحظات ـ ترجمات...) داخل بند "الأثر" موحيا بوحدة الأنواع والخطابات والمشاريع المتباعدة كليا.وعلى الرغم من استثمار الفصل لتحديد رولان بارط ـ في مرحلته البنيوية ضمن مقالته "نظرية النص" 1973 ـ للنص والأثر، حيث يقول بارط: "الأثر تحمله اليد، النص تحمله اللغة" منتصرا للنص ضد الأثر، نظرا لأن الأثر شيء منجز محصور بحدوده المادية، أما النص فلا يخضع للإحصاء، فهو حقل منهجي لا يتحقق إلا بالعمل والدلالة. إلا أن فريس يسمي ذلك التمييز تهربا لبقا أمام مسألة بحثية وخيارات محسوسة في النشر يطرحها تعريف الأثر وحدوده. (ص 92)فالأثر مغلق في حدود كتاب ومؤلف ومجتمع وعصر، لكنه مفتوح على آثار سبقته، أو أكملته، أو استشهدت به، أو نقضته، أو حاورته. وهو مفتوح أيضا على الحوارات والأصداء التي تتعدى العصور والثقافات. لأجل ذلك يعلن فريس ـ آخر الفصل ـ أن: "التوتر أو الجدلية بين الانغلاق والانفتاح، والانحصار والامتداد، والاختيار والتناهي، هو الذي يساهم في توضح التساؤل عن مفهوم الأدب بالذات". (ص 98).



 II    ـ قراءة في المرجعيات وآفاق النظرية:



تستند القراءة النقدية ـ ضمن هذا المقال ـ على تحيين تأمل في التصورات المعروضة، في ضوء ملمحين بارزين للكتاب، أولهما جنسيته الفرنسية المنعوتة في الآونة الأخيرة، بالتراجع النظري والانسحاب الفكري مقابل المد الأنجلوسكسوني والإشعاع الجرماني، وثانيهما رسمه لمعالم للتفكير حول الأدب في بداية الألفية الثالثة.



  1ـ النظرية والاستقراء: يرسخ إيمانويل فريس وبرنار موراليس خاصية النقد والتنظير الغربيين (مع تبن واضح للطابع الفرنسي أولا ثم الأوروبي ثانيا) القائمة على نهج استقرائي يستمد النظرية من النصوص الأدبية. فالمؤلف يبني تصوراته حول الأدب على عوالم النصوص ومعالم الإبداع لأدباء وشعراء وروائيين كثر (بلزاك، باسكال، مالارميه، هيجو، بروست، ساد، فلوبير، سرفانتيس، رامبو، جورج صاند، نرفال، بودلير، زولا...) والكاتبان يصرحان بالقول: "لا يمكن ... وضع خط فاصل بين الفن والنقد. فـ"الأوهام الضائعة" هي بالقدر نفسه، حكاية كتبها بلزاك في منتصف فترة ملكية يوليو، وعرض حقيقي لـ "أصول الفن" التي رسمها بيير بورديو بعد ذلك بمائة وخمسين سنة". (ص 10). في إحالة إلى كتاب "Les règles de l’art" لبورديو (صدر سنة 1992 عن Seuil-Paris).لأجل ذلك فالنقد والتنظير، في هذا المؤلف، يعارض التلخيص، إذ يظل الكتاب كتابا بتفاصيله التمثيلية ونماذجه النصية. وادعاء إنجاز تلخيص لمرتكزاته النظرية أو لأسسه النقدية ادعاء قاصر، في ظل تصور نظري نقدي يجعل الأثر الأدبي قوام النظرية، ويجعل النظرية الأدبية قراءة للأثرأوالعمل الأدبيين.



وانتقالا من المنظر إلى قارئ النظرية، يخاطب المؤلف / المؤلفان، عموما، قارئا أدبيا شغوفا بالأعمال الإبداعية التي يتأسس عليها التنظير. وشغف هذا القارئ ليس شغف هاو، بل شغف ناقد متمرس خبير بالآثار الأدبية. فطبيعة التنظير للأدب تحول القارئ إلى مشارك للمنظر / الناقد، في إنتاج النظرية، حيث إن المنظر ـ عبر مراكمته للنماذج والأمثلة دون الوصول إلى تحصيل الاستنتاجات ـ يفترض في قارئه الفطنة والذكاء والقدرة على إغناء العمل وترجمة التلميح إلى تصريح. ويؤكد كل من فريس وموراليس ذلك عندما يكشفان اقتناعهما بقول فولتير: "إن الكتب الأكثر نفعا هي تلك التي يكتب القراء نصفها، يوسعون الأفكار التي نقدم لهم بذورها، ويصححون ما يبدو ناقصا فيها، ويعززون بتفكيرهم ما يبدو لهم ضعيفا".(ص 12).ويحق التساؤل، إلى أي حد يستفيد، بالفعل، القارئ العربي من ملاحقة قراءة النظرية الأدبية (فرنسية أو إنجليزية أو أمريكية ...) للنصوص الإبداعية الغربية، في ظل مقروئيته شبه المنعدمة لتلك النصوص؟ !!.. 



 2ـ المرجعيات والرهان: لم يصدر الكاتبان عن منهج نقدي واضح المعالم، بل تعددت مرجعياتهما، (ياكبسون، لانسون، بورديو، سبينوزا، ياوس، سارتر، فوكو، مدام دوستال، نورثروب فراي، إيكو، ميشونيك، ديكارت، بارط، جنيت ...) وتداخلت فيها الشعرية بسوسيولوجيا القراءة ونظرية التلقي، وتلاحمت فيها البنيوية بعلم الاجتماع والأسلوبية. غير أن تلك التعددية لا تخفي ميلا ظاهرا إلى التوليف بين المنظور الاجتماعي في صورته مع بيير بورديو، والمنظور الأدبي/الشعري المحتفي بفعالية القارئ في كشف دلالة النص وجماليته.ولقد كان ذلك التوليف ـ في غمار تتبعه لعوامل الاتصال الأدبي ولما يعترضها من تشويش، وفي عمق سعيه للإحاطة بتمثيلات الأدب من خلال النص والأثر الأدبيين ـ يراهن على استحضار ما أعلنته حنه أرندت عن أزمة التعليم وأزمة الثقافة.



ومن ثم فآفاق نظرية الأدب ـ في الفصلين وفي الكتاب بأكمله ـ محكومة بهاجس تشكيل النخب، حيث إن قراءة الأدب ليست متعة قارئ وحيد، "فوراء القراءة الفردية، ينشأ سؤال ذو طابع مؤسسي، يحيلنا ببساطة إلى مفهوم سياسة تنشئة النخب، فهل يمكن لتحليل الشأن الأدبي أن يجد في هذه السياسة مكانه الصحيح، مع الأخذ بالاعتبار المشاغل التي يخلقها على صعيد المناهج والنظر الإبستمولوجي". (ص 12).فالأدب ـ حسب الكاتبين ـ ممارسة ومؤسسة تتدخل في إنتاجها هيئات مختلفة، وتتقاطع في الاهتمام بها فئات متعددة من الجمهور، بتوجيه جلي أو ضمني، تمارسه كل من المؤسسة الثقافية والمؤسسة التعليمية. ويفضي هذا الطرح السوسيولوجي إلى التساؤل حول مدى إدراك واضعي البرامج والمناهج التعليمية ـ وهم في الغالب يمثلون المؤسستين التعليمية والثقافية في الآن نفسه ـ لأثر الدرس الأدبي في تشكيل الوعي النقدي لدى التلاميذ والطلبة في مختلف أسلاك التعليم والدراسة في الوطن العربي.



3ـ آفاق النظرية: يزامن استجلاء فريس وموراليس لقضايا الأدب، أزمة ما بعد الحداثة في العالم المتقدم، وهي أزمة "موت الواقع" أو أزمة  "الواقع الافتراضي"، حسب تحديد جان بودريار، حيث إن النص الافتراضي يكتسح العالم من خلال ثقافة الصورة وسلطة الإعلام التلفزي. فتحرير الصورة ينتج التلاعب المفتوح والخبيث بالواقع. والتقدم في المكننة وتطور تكنولوجيا الافتراضي (فيديو، شاشة تفاعلية، أنترنيت، تلفزيون الواقع ...) يحيلان إلى تذويب التمييز بين الإنسان والآلة، وإلى إحلال الذكاء الاصطناعي محل الفكر. والتعامل مع الشبكة العنكبوتية يعلن نهاية خطاب الهوية وقضايا الغيرية[4].



في ضوء المنظور ما بعد الحداثي، لا يتعرض الاتصال الأدبي (بعوامله الستة المستعارة من الاتصال اللغوي) للتشويش نتيجة للعراقيل التقنية المعروضة آنفا، بل يتعرض للتشويش ـ أيضا ـ بسبب امتدادات العالم الرقمي الذي قوى دعائمه في كل الصناعات بما في ذلك "صناعة الثقافة". ولذلك تمثل عودة القارئ إلى الآثار الأدبية استشرافا لقيم مفتقدة في سوق التداول الرمزي. فالإعلام التلفزي الذي يحاصر الإنسان من كل ناحية، ليس إلا وهما، لكن هذا الوهم قد "تحول داخل اللاوعي الجماعي إلى بديل يقوم مقام جميع القيم الأخرى"[5].



يغدو بحث فريس موراليس عن آفاق جديدة للدراسات الأدبية ـ احتماء بقيم مصادرة في الوضع الجديد للثقافة المعاصرة ـ بمثابة احتفاء بكينونة منسية لإنسان انفلتت منه هويته. ففي ظل الحدود الوهمية للعالم الافتراضي، وفي ظل ابتلاعه للفوارق الفاصلة بين الواقع والخيال، يحرر النص الأدبي قارئه من مخالب النص الافتراضي، لكي يستعيد ذلك القارئ وجوده الإنساني، ويستمد من العمق الروحي للأدب، منظومة قيم ذات أبعاد متعددة فلسفية وجمالية وثقافية وأخلاقية واجتماعية ونفسية ... وغيرها، تدعم هويته المتميزة، وتدفع عنه مخاطر التحول إلى "واقع افتراضي للآلة".ويمكن، في هذا السياق، اقتباس حديث ميلان كونديرا عن الرواية إذ يقول: "إن الرواية تلازم الإنسان باستمرار و بوفاء منذ بداية الأزمنة الحديثة، فقد تملكها (الرواية) "الشغف بالمعرفة" ... لكي تتقصى الحياة الملموسة للإنسان وتحميها ضد "نسيان الكينونة"، ولكي تبقي على "عالم الحياة " مضاء باستمرار"[6].



فما تتيحه الرواية للقارئ (أو للمبدع أو للناقد أو للمنظر) جزء مما يتيحه الأدب وما تتيحه نظرية الأدب، متعة التفكير في فكر يمتع، وتواصل بين الكاتب والقارئ يخترق الأثر الأدبي، ويعيد فيه القارئ استكشاف ذاته. وفي ذلك يقول بول ريكور: "إننا ... لا نفهم أنفسنا إلا بخفايا علامات البشرية المبثوثة في الآثار الثقافية، ماذا كنا سنعرف عن الحب والكراهية، عن الأحاسيس الأخلاقية، وبعامة عن كل ما نسميه ذاتا، لو لم ينقل ذلك إلى كلام ولم يبين بالأدب ؟"[7].







الإحالات:



[1] عنوان المؤلف، « Questions Générales de Littérature »  : لإيمانويل فريس وبرنار موراليس ـ صدر عنSeuil سنة 2001، و صدرت النسخة العربية - و هي المعتمدة في هذا المقال النقدي - بعنوان "قضايا أدبية عامة : آفاق جديدة في نظرية الأدب"  ترجمة   د لطيف زيتوني، عن سلسلة عالم المعرفة ، عدد 300 فبراير 2004.



[2]  ـ قضايا أدبية عامة ص 8.



[3]  ـ نفسه، ص 61.



[4]  ـ جان بودريار ـ الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع ـ ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار ـ دار توبقال الطبعة الأولى 2006، ص 71.



[5]  ـ نفسه ، ص 51.



[6]  ـ ميلان كونديرا، فن الرواية ـ ترجمة كمال التومي ـ الحداثة وانتقاداتها ج 1 ـ إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. سلسلة دفاتر فلسفية عدد 11، دار توبقال ـ ط 1 ـ 2006. ص 114-115.



[7]  ـ بول ريكور ـ من الـنص إلى الفعـل ـ ترجمة محمد بـرادة وحسان بورقـية ـ دار الأمان ـ الطـبعـة الأولى 2004 ، ص 80