قـصـة قـصيـرة


على رُكْحٍ مُـنْـفـرِد
  سعيدة تاقي

انـتـظار
ارتدتْ فرحَها، و مضتْ.. تُقلِّمُ أوصالَ الساعاتِ.
استكانتْ إلى لهفتها العقاربُ، و انسابتْ تطِلُّ على الأرقامِ في حلقاتِ.
أسدلَتْ الأيـامُ جفنيها على توْقِها الوليد.
و تنحّتْ تبحث جانباً، بين الوجوه عن دفء عابرٍ تُذْكي نارَه، من جديد.



وُصـول
تعثّرت قدمُه و هو يقفز بعجلةٍ الدرج الأخير من القطار قبل أن يتوقّف. كان يفكِّر في النَّعشِ الذي ينتظره مُشرعاً، في القرية النّائية، لدفنِ فرحٍ لم يمْهِلهُ عُسْرُ المخاضِ الأوَّل..
كان يفكِّرُ في الكفَنِ الذي استبدَلَ بياضَ ثوْب العُرْس، و ما فطِنَ للقدَم التي زلَّتْ بحزنهِ إلى الأسفل تحت الحديد.



انصـراف
لم يَع من الوجود غير ماء دافئ و صوت خافت و بعض النور.
و حلَّ الألم..
الصمتُ يعزل كل ذلك الكلام و الصُّراخ المُراقَيْـن خارجاً، لِكَيْ يظلَّ النَّقاء بالداخل عنوان طُهْـرٍ مُـفْـتـقَـد.
أهي أرواحُهم لِشفافـيتِها يَسْهُل احْتِضارُها، أمْ هو الألمُ يُرهِق طيبوبَتهم المُفـرِطة فَـيَكون الموت آخِـر الكَيّ؟!




أنشودة الرَّحــيل 
سعيدة تاقي

  ــــــــــ
  "فَـزَّاعَةُ القَـرْيَة الجديدة لا تُطاردُ العصافـير."
  ــــــــــــ

بالبحر عزَفَ أخيراً أنشودةَ الرَّحيل.
لم يردِّد صداها ذاك الصباح، سوى رقْصِ النوارس و مجدافِ بحّار عجوز...
و الزُّرقةِ المُتورِّمة.
***
سابقاً
كان للقرية ألفُ بابٍ و باب، و نوافِذُ عديدة و باحاتٌ مُتْرَبة.
و ما كانت لها ـ لسوء النيَّة ـ مخارجُ للحُلم.
***

سابقاً
سيَّجوا الحقولَ كي لا ترتَع دَوابُّ الرئيس حيثُ شاءت.
لم يُمعِنِ السيّاجُ في الانتظار كثيراً.
محرِّكاتُ الضيعة المجاورة شرِبتْ كلَّ ماء الجَوْفِ، نكايةً بأحجارِ الوادي الجافَّة.
***

سابِقاً
بيعتِ الأرضُ.
و جفَّ الضرعُ.
و ما اكتفى العُمرُ عن إنجابِ البُطون.
***

سابِقاً
كان الوهمُ غدٌ سيأتي.
كان حُلمُ الفرَجِ و الفرَحِ، و البِكْرُ سيَكبُر.
***
حلَّ الغدُ.
البحرُ المآل.
و الأرض الواطِئَةُ المُستَـقَـر.
***






نَـوايـا على المُـفْـتَـرَق
سعيدة تاقي

كان ينتظرها على مائدة الغذاء في المطعم نفسه. و يداه مبسوطتان على قائمة الطعام تداعبان الأسماء و الألوان.
ظل يترقّب وصولَها دون توقف. لم يكن صوت الموسيقى مسموعاً، لكنه كان يأمل أن ينكسِر الصمتُ على وقْع رقصات حذائها، التي يريدها أن تعتزل إسفلت الشارع ذات قَبول، لترقُصَ لخلوتِه.
كان حضورُها  يكفيه، لينْـهَـال عليه بكل ما يطْرَبُ له.. اختار المقعد المستـند إلى الجدار، كي تولي ظهرها للعالَم و هي تستقبِل وجهَه، فـيستأثر بوهَجِها له وحده.. تعمَّد أن تكون طاولتهما الأكثر انزواءً في القاعة السفلية. فهي لم تحب يوماً القاعات العلـيا التي تتراكم على طاولاتها نشراتُ الحُبِّ الفاسِد، و دخان الاحتراق المشبوه.
كان يعلم أنّ الطاولة التي اختارها ستثير بدورها، حاسَّة شمِّها لـبخـور الذنب الذي يرتكبه بكل براءة..."أليست طاولة في القاعة العَـلنية مثلما تسمّينَها، فماذا يعيبها؟".. كان قد حضَّر رداً على مقاس اعتداده بمعرفَتِها. لكنها لم تأتِ..
أكانت تعلمُ بـأنَّ نوايا الحُبّ قد دسَّت من التّوابل ما يزيد عن الحاجة و أنّ الوجبات التي تعرضها الأطباقُ التي ينتـقيها ككل مرّةٍ على هواه، ليست فاتحةً لشهية الصفاء الذي ترجوه؟
ما زال ينتظر، و الجوعُ يقاسِمه الانتظار بهدوء.  قبضتاه وحدهما لا تعرفان الاستكانة.





دونَ خُـفَّـيْـن
سعيدة تاقي

لم يستيقظ هذا الصباح.
لم يُجبْها ـ عند الظهيرة ـ و هو يسمعها تناديه، عقب فَـتحِها باب الشقة بالمفتاح الذي تملكه منذ سنوات، و تجمعه إلى سلسلة مفاتيحها الكثيرة و المتجدِّدة.
كان يدرك و هي تناديه بصوتها الدافئ، أنها تحمل نصيـبَه من وجبة الغذاء التي أعدَّتْها بشغف، و حملتْ شطراً منها إلى طفليها في المدرسة، و أتَـتْه بشطر ليتناولاه معاً. كان ذلك هو الحل المُرضي للجميع، بعدما يئست من انتقاله للعيش معها، و مفارقة عزلته داخل غرفة مكتبه و رواياته و مؤلَّفاته.
يـسمعُـها، الآن، تبحثُ بين الأدراج و الخزانات في المطـبخ، عن الصحـون و الملاعـق و الشوك... و يسمعها تواصِل النداء عليه بصوتها الدافئ.
ارتدى الخفَّـيْـن الناعمين، اللذين أهدته إياهما مع بداية الخريف قبل ثلاثة أسابيع. كانا أكثرَ طراوةً و نعومة على قدميه من المعتاد، لكنه لم يُعِر الأمر اهتماماً.
حمل فنجان قهوته البارد.. و توجَّه ليلحقـها إلى المطبخ دون صوت.
كان دوماً يمازحها بقوله: "سأظل أحمل فنجان قهوتي، مهما ارتفع ضغطي يا ابنتي. أعتقد أنني سأحمل فنجان قهوتي بيُمناي حين نُـبعَث؛ ففيه صكُّ براءتي من كل الجرائر التي ارتكبْتُـها في حياتي، بعضُها كان لفرط النشاط الزائد، و بعضُها كان لقلَّة النّوم الهانئ."
تبِـعَـها، و هو يشعر ببرودة الفنجان بين أنامله. يراها تقسِم حصص وجبة الغذاء بين الأطباق، و دون أن تنظر إليه، تناديه من جديد.. تمرُّ أمامَه.. يلحقُها دون صوت.. تتوجَّه نحو غرفة النوم، و هي تناديه بصوت أكثر دفئاً و شغباً.
هناك في غرفة النوم، يراها بجوار السرير...
و يرى نفـسَه نائـماً على السرير نفـسِه.. فنجان قهـوته البارد فوق المنـضدة الصغيرة.. و الخفَّان النّاعمان في الأسفل، وحيدَيْن دون قدمين.




فِنْجانان، لا أَكْـثَـر..
سعيدة تاقي

حملتْ فنجان الشاي إلى شفتيها بهدوء، كانت تعلم أنّ عينيه ترصدان خلسةً كل حركاتها. و كانت تتعمّد أن تكون أمامه في كامل الصّفاء الذي يبهره دون مجهود. تركت الفنجان بين شفتيها أطول من المعتاد. و حين وضعتْهُ أمامها على الصحن، داعبت بمنديل ورقي أثر تلك القبلة المسروقة. لون الزهر كان قد ترك شفتيه مفتوحتين على حافة الفنجان، و قطرة صفرة ذهبية تنساب نحو الأسفل.
لم تعتَـد شاي الصباح من قبل.. لكنها اليوم نكاية بالصحيفة التي يغازلها بين الفينة و الأخرى، أرادت أن تصيب قهوته اللاذعة ببعض الحيرة.
الصمت كان يمرُّ كثيفاً في الامتداد الضيق الذي يضمّهما.. لكن الصخب كان مثل البخار المتصاعد عن الفنجانين، أمراً حتميَ التوغّل.
"لن أقول شيئاً، بعد كلّ ما قُـلته.".. ذاك ما كانت تفكِّر فيه.
"إلى متى ستواصل إضرابَها عن الحديث؟".. ذاك ما كان يفكر فيه.
على صفحة عينيها النجلاوين كان الهدوء عنوانَ عاصفة احترقتْ على عجل.
و بين عينيه المُتعبتين، كان ينتصِبُ لهاثٌ، لم يستقِم حلمُه بليالٍ اقترفَها في مخيِّلته دون افتراض واقِعٍ ملائم.












        سَــــفَـــر..
                                  ومضة لـ سعيدة تاقي
                                                            الخميس 20 أكتوبر 2011 -10:27 

شـرُفاتٌ تعانِق العابرين..
أدراجٌ تمتطي الغِـياب..
من يرتدي كـلَّ تلك الغُربة؟


                
                            انــزيــاح
                                 ومضة لـ سعيدة تاقي
                                                                   الإثنين 17 أكتوبر 2011 - 20:19  

حين تأسـرنـي الكـتابة، يـأخـذنـي المعـنـى و تـغـويـنـي الـكـلـمة.
.. من يـلـمُّ شـتـات الحـقائـق المـتنـاثـرة؟
.. من يـضـمِّد أوجـاع المَـجازات؟
       


                                شــــرود
                                   ومضة لـ سعيدة تاقي     
                                                                    الجمعة 14  أكتوبر 2011 - 16:35 

  لم يكن يَـنـتظر غيرَها..
 أمهـلَها زمناً.. و أمهل، في غضون الانتظار، الزمنَ زمناً آخر..
 حين مرّتْ عابرةً على حواشي شروده، كان مُـمعِـناَ في مرآتـه..
لم يتعرّف على ملامحِه تـرسُمها هي فوق أحراش الغياب..

                                              









                                        قـبلةٌ دامـيـة

                                                      ومـضـة لـ سعيدة تاقي
                                                                   الأربعاء 5 أكتوبر 2011 - 12:00  

حين مالت على يُـبْـسِه برقةٍ لتلـثُمه، دهستْها سيارةٌ مسرعة.. لم تعرف قطعةُ الخبزِ الملقاةُ ثانيةً على الإسفلت، أيَّ غموسٍ دافئ ذاك الذي غمرها!..
















                                      ابتـسامة على شفـتـيه

                                                    قصة قصيرة لـ سعيدة تاقي
                                                                 الثلاثاء 19 يوليوز 2011  22:37

مرّت عابرةً في حياته.. لكنها كانت تسلب منه في كل مرور ابتسامة..
 لم يكن يملك أن يقاومها..  بإصرار غريب كان يتابع كل حركاتها..
 في البداية لم يهمه أن يعرف اسمها ، كان مكتفيا بإطلالتها يشرق بها صباحه.. لاحقاً رغب في أن يعرف من تكون، لكنه خشي أن يغيب البهاء حين تدركُ وجوده المتلصِّص على عفويتها.. في النهاية لم يعد الأمر مهِّما لأنها اختفت دون أن تترك أثراً يدلُّه على ديارها..
كانت الابتسامة المرسومة على شفتيه غنيمتَه الصباحية ،التي تعيد إليه الرغبة في مواصلة البحث عن غد أفضل..
لم تعد أيامه متشابهة ، منذ أطل محيّاها الجميل ذات صباح خريفي..
.. أصبح يمقت نهاية الأسبوع.. ودَّ لو استطاع حذفها لفرط ما كانت مملّة و محبطة..
 و رغم أنه متيقن من أنها لن تعبر من أمام المقهى صباح السبت و الأحد، لم يكن يخلف موعده أو استئثاره بالطاولة المحاذية للمدخل و المطلّة بسخاء على ناصية الشارع..
شاء القدر أن تعبر بجوار تلك الطاولة في أول اكتشافه لذلك المقهى.. فواظب على اعتياد عبورها البهي.. و واظب على تصفّح كل الجرائد المتاحة للزبناء، مقابل الدراهم التي كانت تمدُّه بها أمه خلسة من أبيه..
لم يكن يشعر بالانزعاج.. كان لأول مرة منذ حصوله على الإجازة متفائلاً؛ فإن لم تمنحه الإجازة جوازا لاقتحام سوق العـمل، ستجيز له طاولتُه الأثيرة البحثَ بين الإعلانات عن فرصة للتجرؤ و اقتحام وحدة تلك البهية الهاربة..

دامت ابتسامته ما دامت إطلالتها.. لكنها اختفت.. و اختفت معها ابتسامته...
لم ييأس ظل ينتظرها يوما بعد يوم..
 مر الأسبوع الأول و لم تعد..
واصل الانتظار في الأسبوع الثاني..
 الأسبوع الثالث فارق طاولته الأثيرة ليتنقَّل بين الطاولات الأخرى تلبية لطلبات الزبائن..
الأسبوع الرابع و هو يتوجه إلى طاولته القديمة لتلبية نداء زبون، وجدها أمامه بكل بهائها، كانت مشرقةً أكثر من المعتاد، أو هكذا بدت له بعد طول الغياب..
ـ فنجان قهوة نص نص ليا، و عصير باناتشي للمدام.
انفتحت أساريره كرهاً، لكنها لم تكن ابتسامةً تلك التي افْـترتْ عنها شفاهه، كانت ضحكةً مدوِّية تردَّد صداها في كل المقهى..










                                                      وردةُ الدم المحروق
            
                                           قصة قصيرة لـ سعيدة تاقي



   
                                                     05-09-2011



مازالت الصحيفة  أمامها مفتوحة على الصفحة الثانية.. و دفتر يومياتها بين يديها.. و علامات الغياب تكسو محياها.
تذْكُر أوّل لقاء جمعهما في رحاب الكلية. قطف وردةً بيضاء و مدّها إليها. صاحبَه إحساس الندم أياماً عديدة، بعد الكلمات التي انفلتت منها بعفوية لم تستطع منعها، عن حبِّها للجمال الطبيعي، و كرهها لقطف الورود؛ فالأزهار لابد أن تذبل واقفةً، كما الأشجار حين تموت.
في اللقاء الثالث تجادلا طويلاً حول اختفاء شخصية سراب عفّان دون سابق إنذار، منفصلةً عن حبيبها وائل عمران، لكي تنخرط في صفوف الكفاح و النضال.. كانت رواية " يوميات سراب عفان " للفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا هديّتَها إليه في اللقاء الثاني.
البارحة استثـقلت الأسابيع الثلاثة المتبقِّية لانتهاء العطلة.
و.. اليوم انهار انتظارها.. الصحيفة تحمل اسمه و رسمه.. عيناه جاحظتان والابتسامة قد فارقت شفتيه..
و الدفتر على ركبتيها يكشف وردةً ذابلة حمراء..

                                                                                                          كُـتبت سنة 2004.
















                                       هيفاء


                                            قصـة قصيرة لـ سعيدة تاقي




                                 
                                                      رحيل أشجار البرتقال
                                                         02-09-2011


 خرجت هيفاء من البيت خلسةً. كانت تعتزم العودة قبل الساعة السادسة، لذلك لم ترغب في إيقاظ أمها من الإغفاءة التي باغتـتها و هي تتابع "مناضلون صغار" على الشاشة قبيل نشرة الأخبار المسائية.
.. توجهَت نحو المركز الثقافي، تنوي استعارة كتاب تملأ به وحشة الليل في نهاية الأسبوع.. حيرى بين " أرض البرتقال الحزين " لـكنفاني، و " العصافير تموت في الجليل " لـدرويش، دخلت المكتبة وهي على وشك الإقفال..
.. بدت و هي تضمّ الكتاب إلى صدرها و كأنها تشتـمّ رائحة البرتقال.. ابتسامتها تشي بفرحةٍ طفولية، و ضفيرتاها تقفزان مع وثباتها المسرعة..
لـفَّت إلى الجانب الأيسر لاختصار الطريق.. لم يُرعبها الظلام الذي يغمر مساء دجنبر. كانت تخشى قلق أمها أكثر.. خطوة.. خطوتان.. ثم دوَّى صوتُ طلقةٍ.
شعرت بدفء ينساب على يديها الصغيرتين.. أحسّت الكتابَ يـبتَّـل..
سقطتْ، و هي بعدُ مبتسمة. لم تكن تدري ما حدث..

                                                                     كُـتِـبت سنة 2003