الجمعة، 10 نوفمبر 2023

بِجِـوارِ عـباءة اللغـة سعيدة تاقي

بِجِـوارِ عـباءة اللغـة

سعيدة تاقي

 

 

سأعترف في البداية بأنني لا أستأمِنُ اللغة كلِّياً على أفكاري وتأملاتي وخواطري. فعلاقتي باللغة ليست علاقة احتضان أو تَـمَـاهٍ كاملين، رغم أنني أكيل لها من العشق ما يفوق قدرة رصيدي النَّصِي على البوح، بل هي علاقة حبٍّ يشوبها الاحتراز والتهيُّب المتواصلين. فأنا لا أصدِّق اللغة في كل ما تدَّعيه من براءة التعبير الشفَّاف عن أغراض المتكلِّمات والمتكلِّمين، وهي الأخرى لا تصْـدُقُني المعجمَ أو الدلالةَ أو الإيحاء أو الانزياح أو الرمز حين يستغرقُني الوقوف أحيانا بين مداخِلِها لانتقاء المفردة الأخف من حيث الحمولة غير اللغوية. تبدو لي اللغة "لغتـنا" دائما تلك الماكرة ببراءة متناهية، لا تعبِّر ـ إذ نعـبِّـر ـ عما نقـصِـده، وإنما تعـبِّـر كذلك ـ إذ نعـبِّـرُ ـ عما تـقـصدُه هي منذ تـواريخ قديمة وجغرافيات مأهولة وفلسفات ساكنة.

إنها تحمل معنى المعنى ويفيض عن سواحلها من كل جانب الموج والزبد.

ما الذي يستدعي التصدير بهذا الاعتراف الأول؟ وهل الأمر فريد خاص يتجاوز الموضوع إلى الذات الفردية بالفعل؟

لا أظـن أن حال اللـغة التي نكـتب بلـسانها أو تكـتُبُ بلـسانـنا يخـتـلف كثيراً بين كاتـب وكاتب، لكنه يختلف بالتـأكيد بين كاتـبـة وكاتب. ولا يحـيل الأمر فحسب على "ذكـورة" المجـتمع كاتـبا وقـارئا أو "مُـنشِـئاً" للتاريخ الذي تتعـثَّرُ بين أذياله كل الأنوثة مُحتَجَزَةً تحت إكراهات عديدة مكتوبة بسلطة اليقين وسطوة المطلق، بل يحيل كذلك على "ذكورة" اللغة التي ندَّعي بمزيد من الاستكانة أنها تـتسِع للجميع، وأنَّنا نقف أمام عتباتها سواسيةً كأسنان المشط، وفي حضنها موطن لكل لاجئة أو لاجئ يبحثان عن كينونتهما داخل وُسع اللغة وعوالمها المفتوحة.

قد يكون من ترف الحديث الوقوف عند غياب الأمن داخل موطننا اللغوي وأوطانـنا على امـتداد الانـتماء والفـؤاد والجرح آهلةٌ بالاحتراب والفتن والاستقواء على المدنيين، لكن من قال إن اللغة لا تحمل بعضا من ذلك؟ أوَ لا يعْلَق بمخزونها في كل زمن فائضُ ما تنجزه الثقافة من هدم أو بناء؟

ألسنا ننتِـج ذواتِنا بين جنبات اللغة، فتحمل من جيناتنا بعضَ وجودِنا وتدُسُّـه على طُرُقـاتـنا آثـارا ستمشي خلفنا على هدْيِها أجيالٌ وأجيالٌ؟ ألسنا نقتفي داخل عباءة اللغة ما ادَّخرتْه لنا القرون السابقة من وجود وكينونة وذوات، نرتديها وترتضي لنا أن نكُون من "نحن" عليه الآن؟

إن اللغة تلك المحايدة عند الظن والمُسالمة وقت الشك، تلك التي تفتح أمام يقيننا كل الافتراضات وترصُّ لدهشتنا مزيدَ تنسيب، لا تطوي على الأسطر عناقَ الحروف للحركات أو مراوغة الكلمات للأفعال أو احتمال الأدوات لأكثر من دلالة. إنها تحفِر عميقا داخل مفهوم الوجود الإنساني وتمثُّلات الذوات عن الذوات، وتمثيلات الأنا لكل موضوع. إنها تحْـفر إذ تَخُطُّ الحاضرَ في نصٍّ أفقي طُولاً وعَـرْضاً في كلِّ التواريخ الماضية، توقظ سجلات الذاكرة الجمعية، وتستعيد لصالح "حيادها" المُدَّعى أعطاب اليقينيات السائدة. إنها تكتُبنا وفق ما كتَـبَـنا السابقون، وسنَكتُبُهنَّ أولائك القادماتُ وسنكتُبُهم أولائك القادمون بمنطق نضمِّخُه أعطابـنا وسجلاتنا ويقينياتنا وشكوكنا.

فلنَدَعْ عباءةَ اللغة جانبا قـليلا سـيداتي الكـاتبات، ولنـمـرَّ إلى جوارهـا بتـأمُّـل كـيِّـس، أو لننزعْها عن جِلدِنا بعض الوقت متى أمكَننا ذلك، ولنُعاوِدْ صُنعَها على مزاج ذواتِنا الفردية المميَّزة بالأنوثة كي نؤنِّثَ العالَم قليلا.

 

 

ـ أستاذة وباحثة أكاديمية من المغرب.

نشر المقال بالقدس العربي.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق