السبت، 4 نوفمبر 2023

أوزار ضمـير المتـكـلِّـم سعيدة تاقي

 

أوزار ضمـير المتـكـلِّـم

 

الشُبهة الأولى:

حين يستفيق ضمير المتكلِّم المفرَد من التِباس الواقع المترهِّل ويسْكُن إلى جسد النص السردي، حين يختار ذلك الضمير أن يعلن ذاتَه المفردة منذ جملة النص الافتتاحية، يوهِم القراءة من لحظة التَّـماس الأولى بأن للسيرة "الذاتية" بعضَ الشبهات.

القارئ حينها لا يشيِّد افتراضاته الخاصة وحسب حول ذلك الضمير المتكلِّم في بنائه السردي، بل يتجاوز البحث عن الدلالة التي يصوغها في تفاعله المباشر مع النص المكتوب  (هانز روبرت ياوس)، ويتجاوز مقصديات النص (أمبرطو إيكو)، تلك المقصديات التي تبنيها كل العلامات السيميائية المبثوثة بعناية الكتابة عبر جسد النص، إلى الحفر عميقا في نوايا الكتابة ومقصديات الذات الكاتبة، تلك الذات الموجودة فيزيائيا بشكل حقيقي خـارج النص من لحم ودم، الذات التي تركت النص وحيدا بين يدي القراءة يدافع عن ضعف الإحالة (بول ريكور)  بقوة الدلالة وصندوق العلامات.

قبل الإدانة بقليل:

غريب كيف تغدو الذات المتكـلِّمة بضمير المُفرَد ساحرةً بغواية الحرف حين تُسلِمُ للقراءة كلَّ المقاليد، تشدُّ الطَّرْفَ إلى المتابعة عرضاً وطولاً، وتدعو التأمل إلى قياس كل احتمالات التداخل وإمكانات الوجود وافتراضات التَّماهي.

في البال.. بـال كلِّ قراءة ما زال يـكْمُن بالطَبع والإرث وحلقات إعادة الإنتاج (بيير بوريو) ـ منذ تاريخ معطوب وجغرافيات متآكلة وفلسفة لا تركن إلى التصالح الوجودي مع مفهوم الاختلاف ـ هـوسٌ قديـم بالبحث عن الذات في كل موضوع، وبـ"شخصنة" كل مجرَّد أو قضية، وبكشف العُري في كل تستُّر، وبتوطين "الزَّعيم" في مُقدمة كل جماعة.

ولأن منطق الثقافة السائدة انشغَل منذ قرون عدة بسطوة الإجماع النافذ واستـقواء الفـرد بالجماعة وقياس الغائب على الشاهد، حتى تضخَّمت الذات المتكلمة بالمُفرَد وغدت متـكـلِّما جـمعاً يستفيد من فائـض القـوة الـرمزية دون إحالة حـقـيـقـة بالضرورة، فهو يُصدِر الأحكام والفتاوى ويقرِّر الأحوال والرُّسُوم ويبارك الأفراد والأحداث والمواسم. فإن ضمـيـر المتكـلِّم "السَّردي" الفـرد الأعـزل "البريء" مِنَ كل إحـالـة فـيزيـائـية أو عـيـنـية أو خارجية أو مَـقامِـية أو رمزية لا تَسْلم سريرتُه وهو يصرِّفُ أفعاله النحوية داخل لغة السرد على الورق، من اشـتهاء القراءة الآثــم.. اشتهاء أن يكون ذلك الضمـير المُفـرَد مـتورِّطاً بالفعــل والحدث والحـبكـة في إحالة "ذاتـية" نـصِّية وداخلية وسرية، ترتبط فيها الكـاتـبـة أو الكـاتـب باقـتـران وجـودي لا تـفـلَـح الأفكارُ المتواترة والجمل المتراصَّة والدلالات المنضَّدة في دفع تهمة النـية والقـصْد في التنكُّر خلف أقنعة التخييل القصصي أو السردي أو الروائي..

لماذا لا تفُـكُّ القراءةُ أَسْـرَ كلِّ الضمائر من غوايات الإدانة القَـبْلية؟ لماذا لا يصِحُّ للموضوع أو للسرد أو للقص أن يكون غُفلاً من كل سريرة "ذاتية" لمعاناة سابقة على الطرح أو التحليل أو التسريد أو القص؟

قَيْد المُرافعة:

في العمق كلُّ قراءة آثمة بِقـدر أو بآخر، لا يكفيها أن تستحضر بمَكْرٍ لذيذ كل مقروء سالـف يشبِه النـص أو يخـالِفه، يقـترن بقلم الكتابة أو يشاركه الجنس أو الإبداع أو الرأي.. ولا يكفيها أن تستدعي بمتعة مُستَـزيدة مُدركاتها السابقة عن ذلك القلم وماهيته أو هويته، بل إنها تخوض عميقا في التباس الذات والموضوع وتستنسخ من روح ذات السرد الواحدة ذواتٍ أخرى تسـيح فـوق فـضاء الـنـص المتعـدِّد باسم ضمير واحد يتحمَّل وحده مفـرداً أعزلَ دون إحالةٍ عـينـية أو خارجـية أو مَـقـامِـية أو رمزية كل أثـقـال الماضي والحاضر والمستقبل، دون مقاصد نقدية واضحة العلامات السيميائية النصية.

كلُّ ضميرِ متكـلِّمٍ مُفردٍ آسـرٌ، لا ينتصب سِحـرُه بين الأسطر والكلمات والأحرف، بل تنفتح للصورة الواحدة التي ينحتُها مئات المرايا المتقابلة، لا ترى بالضرورة الأصل المرسوم بعناية البنـية والتركيب والحبكة والدلالة، بل تترك لاحتمالات الأبعاد المتوازية والوسائط المتداخلة إمكان أن تخلق مع كل قراءة صوت كتابة أخرى غير تلك التي كانت في الأصل منشأ الدائرة التأويلية (ريكور) أو مُـفتَـتَح عمليات التفاعل والتوقع والنفي (ياوس).

بعد الإدانة بكثير:

كلُّ كـتابة غوايةٌ بسـبق انتشاء ووجـع ومـيلاد. لا تخـتار الضـمـير أو تـكتـب الـذات أو تترصَّد القارئ فحسب. إنها تشيِّد العالَـم بعـيداً عن قيوده الفيزيائية أو المرجعية أو التكوينية. إنها تخلق الإنسان الذي في غفلةِ بحثِهِ عن "الآخر" بين ثـنايا النص السردي لشُبهةِ متكلِّمٍ أعزل من أي انتماء إلى ذات جماعية "متضخِّـمة" في التاريخ أو في الجغرافية، يجدِّد مراياه الداخلية كذلك، وينتشي بوهم القبض على تلك "الأنـا" السردية المتربِّصة بكل قراءة "آثـمة"، ويصل ذلك الإنـسان في منتهى الالـتحام بسجـايا النـص إلى إدراك أن "الأنـا" السّـاردة/ وأو الـسـردية ـ تلك المبـثـوثـة في النــص، أو ذلك "الآخـر" الذي كان يتـرصَّده ويَشْتبِه في ضلوعه الكامل في فعل الكـتـابة بسبق ذات وهـوية وانتـماء ـ هي مقابـله الإنساني في عالَم النص.. ويصل إلى إدراك أن "الأنـا" الفردية المعيَّـنَة والتي تمتلك في زمن القراءة الذي يُنتِجه إحالةً ذاتيةً مقاميَّةً خارجية بالضرورة لأنها ببساطة ذاتُه هو أي الذات القارئة/ القارئ، هي مجرَّد "آخـر" أراد أن يستظِل بظل "أنـا" غير "أنـاه" الخاصة، أو هي في عمق أوزار ضمير المتكلِّم المُفرَد مجرَّدُ ذات ضمير متكلِّم آخر أعزل بعيداً عن كل انتماء إلى ذات جماعية "متضخِّمة"، يبحث عن "ميثاقِ" تحرُّر يُعيده إلى مُفْـردِه بعد أن تُمعِن القراءة في تحريره من كل "شُبهة" انتماء "تاريخي" أو "جغرافي" أو "مرجعي".

 


 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق