*خالد حمّاد
المصدر /العرب اللندنية
ليس الأمر بالهيّن في الانتقال والترحال من بيت الشعر إلى دروب الرواية، وأن تكون في ذات الوقت سابحا في محيط النقد. قليل ونادر أن يمتلك مبدع كل هذا، وهذا ما نجحت فيه الشاعرة المغربية سعيدة تاقي؛ أن تقدّم نفسها الشاعرة والناقدة والروائية. وجاء تكريمها من قبل مؤسسة المثقف سيدني بمنحها درع المثقف للثقافة والأدب والفن، أكبر دليل على منجزها الإبداعي والنقدي. حول تجربة سعيدة تاقي كان لـ”العرب” هذا الحوار معها.
لا تعتقد الشاعرة والناقدة المغربية سعيدة تاقي أن البدايات هي طور منصرم من أطوار الحياة، وآيل للتسجيل في ذاكرة الإنسان، ونستدعيه لتخليد ذكراه بالعودة إلى الماضي. فالبدايات عندها فصل نجدده كل يوم عبر وعـودنا لذواتنا بالبقاء والصمود والتجدد، وعبر وعودنا للحـياة بتحقيق الآمال وتفعيل الأحلام. البدايات متعددة نحياها بوتيرة متواصلة ومتفرّدة. وهي لا تتكرّر، لكنها بحكم الترابط الذي يصل بينها تنتج وحدة بالتراكم.
حياة الأدب
في حديثنا عن البدايات وماذا يتبقي منها في ذاكرة المبدع، وإن كانت شخصية الناقدة تضيف إلى المبدعة بالنسبة إلى الشاعرة والناقدة المغربية سعيدة تاقي، تقول الشاعرة “النقد لا يضيف للمبدع إلا بقدر ما يسلبه. فالكتابة الإبداعية فعل خـلـق وتحرّر وتحرير، والممارسة النقدية فعل إدراك وضبط وتقييد، وكلما اتسعت الرؤية تضيق فعلا العبارة؛ أقصد كلما اتسعت الرؤية النقدية بالعمق الفكري والنضج المعرفي أثـقـل لاوعي الكتابة الإبداعية بأسئلة الجدوى ومحايثة العالم”.
ترى الناقدة والمبدعة سعيدة تاقي الأدب في التحولات السياسية والاجتماعية التي تعرفها المجتمعات العربية على أنه مواكب للحياة عموما، فهو فصل من فصولها المنتجة. ولأجل ذلك فمن الطبيعي أن ينشغل بكل ما يمرّ به عالم الحياة من تحوّلات. لكن ينبغي، في رأيها، أن نعي بأن الأدب لا ينقل الواقع، ولا يعكس بصورة آليّة ما تشهده المجـتمعات من حيوات، ولا يناقش قـضايا الـناس والمجـتمع أو يحللها أو ينظّـر لها، ولذلك فهو ليس وسـيطا للفهـم أو للإفهام.
وتضيف قولها: الأدب إبداع يفكّر في الحياة بلغاته المميّزة والمتمايـزة. الأدب يقترح بالفعل تمثّلاته للحياة وللواقع وللوجود، لكنه لا يدّعي ملاحقة ما يقع أو متابعة ما يستجد، ولا يصحّ له أن يدّعي ذلك، فذاك امتياز الإنتاج الفكري وصلاحية المتابعة الصحفية وخاصية اليوميات التسجيلية. الأدب يحتاج إلى التروي والتحرّر من إكراه اللحظة. قد يختلف الأمر قليلا بين جنس الشعر وباقي الأجناس الأدبية الأخرى، نظرا لكون الشعر دفقة إبداعية لا تأنس إلى الحفظ أو التأجيل أو “التبريد” أو الاختمار. لكن هذا الاختلاف الواسم للشعر لا ينفي عن أصله الإبداعي خاصيتي التروي والتحرّر. لأجل ذلك ما يكتب على عجل يقرأ على عجل، ويتوارى كذلك على عجل.
وتؤكد سعيدة تاقي أن الأديب والمثقف كائنان منتميان إلى واقعهما الاجتماعي والسياسي والفكري والإبداعي، وأن كلا منهما يفكر في تلك التحولات المرصودة حاليا، لكن بطرائق مختلفة، وهذا مكمن الاغتناء. فمن الطبيعي أن تواصل الكتابة الأدبية مساراتها. ومن الطبيعي أن يبحث الكتّاب عن صيغهم الجديدة للإبداع والتجريب والخلق. ولا شك أن أعمالا عديدة قد تبنّت مخاض الحراك العربي أو عمدت إلى تصوير أجوائه أو سجلت انتماءها إليه. لكن في ظل الاشتراط المرحلي، الاستلهام وحده يمكن أن يكون مفيدا إبداعيا لإنتاج أدب ليس مهلهلا ولا يشكو من التقريرية أو من الاستعجال. فحياة الأدب مثل حياة الشعوب لا تقاس بالسنوات على أطراف الأصابع.
عن طبيعة الثقافة التكنولوجية في الممارسة العربية تعتبر تاقي أن الفضاء الرقمي خلق مساحة للتعبير متحرّرة من القيود التي تكبّل واقعنا الثقافي، وأن النشر الإلكتروني استوعب ممارسة مفتوحة على كل الاحتمالات مقارنة بالنشر الورقي. والأمر حين ننظر إليه، بعيدا عن مكامن النقص والخلل، يتيح للأدب وللإبداع عموما تفعيلا حقيقيا لروح الإبداع.
الأنوثة والشعر
عن الأنوثة في الكتابة بعيدا عن موقف صريح من وضع الأنوثة كحيز اجتماعي مهمّش ومعتدى عليه من السلط الاجتماعية والسياسية والثقافية بالتجاهل والاختلال والنكران، تقول سعيدة تاقي “فعل الكاتبة لا ينفصل عن التمثّلات السائدة داخل المجتمع بوعي أو بدون وعي. واللغة التي تحمل الكتابة تحمل الفكر الذي أنتـج اللغة، والذي أنتج الوعي بهوية الكتابة وبسلطة اللغة وباشتراطات الوجود.
إن الصور النمطية التي نحيا وسطها سـتعيد بالضرورة إنتاج تمثيلاتها إن لم تع الذات الكاتبة شرط التغيير، بحكم كون هذه الذات مازالت موصولة إلى الثقافة التي شكلت تلك الصور النمطية أو مازالت متماهية مع قيمها المتداولة. لأجل كل ذلك فعل الكتابة -عند الكاتبة مثله عند الكاتب- لا يمكنه أن يعيد بناء العالم بشكل يحترم إنسانية الإنسان دون امتثال لتصنيف بيولوجي أو جنسي أو اجتماعي”.
تقول الشاعرة عن الفجوة ما بين النقد والإبداع خاصة في ظل غياب نظرية نقدية عربية: إن هذا السـؤال يضعنا في صيغـته العامة أمام صورة الجزر المعـزولة في واقع مجتمعي تعـمه الفجـوات، وتتراكم على أبنيته التصدّعات. وذلك صحيح إلى حدّ بعيد.
قد يكون السبب في ذلك من منطلق يغرق في التشاؤم، تشظي قيم التآزر والتعاون في التشييد بين كل الفعاليات السياسية والفكرية والثقافية والإبداعية. وقد يكون السبب من منطلق يتمسك بالتفاؤل تحرّر الإرادات الفاعلة من سطوة النفوذ في التسيير واشتغالها دون انتظام موحّد، سعـيا إلى إرباك الفراغ وإمداد العطاء بالسبل الملائمة للإبداع والخلق والإنتاج والإشعاع. وقد يكون لتخصيص كل علاقة ثنائية يصوغها السؤال بتحليل منفرد، تركيب آخر ودلالات أخرى.
سعيدة تاقي كتبت الشعر ومن ثم قدمت للمكتبة العربية الرواية والنقد الأدبي وهي لا تحب النظر إلى الأجناس الأدبية، وكأنها فريق محاربين يتقاتل داخل حلبة صراع، والبقاء سيكون للأشرس، من منطلق أن الزمن ضيّق وثابت، ولا يحتمل غير سيادة جنس أدبي واحد. لأن الأجناس الأدبية كينونات حية تستطيع أن تنمو وأن تتطور. لكنها تستطيع أن تتحول وأن تتعايش كذلك.
تقول محدثتنا لقد أثبت الشعر في كل سيرورات الإنتاج الإنساني قدرته على الصمود بإبداع مبهر وروح خلاقة متجددة. وكشف عبر أنواعه وأنماطه وصيـغه الإبداعية قـبوله محاورة الأنساق الثقافية الموازية لوجوده، وانفـتاحه على أمداء تـطوّر الفكر الإنساني. ولا أظن أن الكون الشعـري، في زمننا هذا، سيفارق خواص وجوده ومعتاد سجله منذ زمن المعلّقات أو زمن التراجيديا الإغريقية أو قبلهما معا. أما فيما يخص الرواية فهي لا تمتلك في خزانة الإبداع البشري ما قد حقّقه جنس الشعر. إنها جنس إبداعي جديد مازال في طور النمو والاكتمال، يبحث عن صيغه ويجرّب أدواته.
_____
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق